اللغة النوبية مفتاح التراث والحضارة النوبية

شرف الدين حمد الملك - 09-07-2021

د. شرف الدين حمد الملك.
باحث نفسي_اجتماعي.
القاهرة.

يأسف كثيرنا كنوبيين ان لغتنا الام تحتضر منذ اكثر من قرن من الزمان ونحن حولها وفى دواخلنا مشاعر متباينة، بعضها يفخر بان ابناؤنا وبناتنا تجاوزوا سمة من سمات التخلف واصبحوا ينطقون بلغات "حية"، اكثر حياة حتى من اللغة العربية مثل الانجليزية،والفرتسية،والالمانية،والاسبانية…الخ.والقليل منا نحن المثقفون النوبيون تنتابنا "احياناً"مشاعر حزن وأسى بسبب واقع المقاطعة بين لساننا القديم والسنتنا الجديدة التى تحلّق بنا اكثر واكثر بعيداً عن واقع وحقائق تراثنا التاريخي،اي بعيداً عن "هُويتنا الحضارية" التى كان من شأنها –لو نمت وقويت-ان تكون غذاءً معنوياً ومادياً مفيداً لكل "السود" واخلافهم فى الكرة الارضية.وثمة اكثر من سبب واحد لهذا الانصراف النوبي عن تعلّم واستخدام هذه اللغة العريقة التى كانت تُعد ضمن اللغات المكتوبة لاكثر من ثمانية قرون الى حين سقوط الممالك المسيحية النوبية على يد الغزاة المماليك والعرب خلال القرون الوسطى.والاسباب فى اعتقادي كما يلي:
1-تمسًك النخبة الدينية النوبية منذ دخول الاسلام بفوقية اللغة العربية على كل اللغات بما فيها النوبية بحكم ان العربية هى لغة القرآن..لغه الله.
2-انبهار النخب السودانية المثقفة عموماً باللغات الاجنبية وبخاصة الانجليزية كوسائل مفيدة فى التوظيف ومن ثم كسب العيش والمركز الاجتماعي المرموق،والتواصل السريع والمفيد مع العالم ككل..والعجيب الغريب ان معظم المثقفين السودانيين يدعي حتى اللحظة انهم قادرون على التخاطب والكتابة باللغة الانجليزية رغم اندثار المنهج الجاد لتعليم اللغة الانجليزية فى مدارس السودان منذ منتصف سبعينات القرن الماضي،وربما قبل ذلك بقليل.
3-الرغبة الملحة لدى النوبيين الحضريين فى الاندماج والتوافق مع غيرهم فى مدن السودان.ومحاولتهم الجادة لازآلة حاجز اللغة من اجل ذلك.
4-جهل غالبية النوبيين بحقائق تراثهم الحضاري وميلهم الى الاستخفاف بذلك التراث بسبب قلة الوعي بابعاده التى يصعب على غير المتعلم/المثقف اجتلائها.
5-اعتقاد كثير من المثقفين النوبيين بان لغتهم لا تصلح الا للتداول محلياً.
وبامكاننا اخذ هذه الاسباب_الواحد تلو الاخر _ببعض التفصيل:-

-القرآن واللغة النوبية:
للغة العربية تاريخ موغل فى القدم بدأت نصوصها المكتوبة "الجعزية"تظهر فى نطاق ضيق فى جنوب الجزيرة العربية وشرق افريقيا قبل الميلاد،الا انها بقيت شفهية فى الغالب حتى حوالي القرن الثالث الميلادي عقب بداية اضمحلال اللغة الآرامية فى الجزيرة العربية.وتدريجياً وصلت الى مستوى تألقها النصي العالي خلال القرن السادس الميلادي،ثم الى اقصى تألقها فى القرن السابع عندما خاطب بها سبحانه رسوله والعالمين ومن ضمنهم النوبيين بعد سقوط مملكاتهم الثلاث في ايدي العرب والنوبيين المستعربين.ومنذئذن تقبّل النوبيون كلام الله كما تقبّلوا من قبل كلام المسيح باللآتينية والقبطية دون دراية عميقة بالمضامين والفلسفات.فقط زعماء الطرق الصوفية فى النوبة هم الذين احتكروا فهم "كلام الله"ومعناه كما احتكر بعض اجدادهم القدامى فهم مقاصد السيد المسيح ودينه.وفقط الاناث النوبيات كن ومايزال حافظات للارث النوبي خاصةً فى الريف.وذلك بفضل استبعادهن عن معارك الهُوية الدينية.فدينهن مجرد مسايرة لمعتقد ازواجهن اسياد المجتمع والثقافة.وما زلت اتندر بقول قائل من النخبة الدينية حين قال:"من قال لله ارتي،وللجزيرة آرتي،وللمعزة برتي،فانه قد كفر".كفر لانه "رطن"،اى تكلم بالاعجمية.وبحسب "المعجم الوسيط":"رطن له رطناً اي كلمه بكلام لا يفهمه.وراطنه،اي خاطبه بالاعجمية"،لغة لا يفهمها الجمهور.وسؤآلي هو لماذا وكيف حافظت كثير من المجتمعات الاسلامية على رطاناتها،بل قامت بتطوبرها لدرجة ترجمة القرآن لغير الناطقين بالعربية من سكانها،وفى خاطري هنا جماعات ودول مثل دول جنوب آسيا،واثنيات مثل الكردية،والامازيغية اللتين لم تُكتب لغتيهما تاريخياً باية أحرف. فلماذا تخّلف النوبيون رغم تجاربهم العميقة مع اقدم الحضارات الانسانية-عقيدة ولغة،وعبودية واستعباد-عن دورهم الحضاري فى الاسهام "الملموس والموضوعي" فى مسيرة الحضارة الانسانية.
2-انبهار النخبة باللغات الاجنبية: الانجلوفونية،والفرانكفونية هى لغات عصرنا وهى ألسن التكنولوجيا الحديثة التي فرضت نفسها على جميع الشعوب الطامعة للنهوض والتقدم فى مسالك العلم والمعرفة فى شتى ارجاء العالم.ولعل اكثر الشعوب الشرقية التى استفادت وافادت من الارث اللغوي الاوروبي عموماً هى شعوب شمال وشرق وجنوب آسيا.وذلك بعد ان ظلت لقرون طويلة منغلقة على ذاتها رافضة للغرب بسبب غرآبة معتقده وشكاً عميقاً فى نواياه…او قل لجهلها بطبيعة حركة التاريخ الازلية التى تحتّم ألا يكون لبعير الحضارة الانسانية فى رحلته الأزلية نحو كشف المجهول غير سنّام واحد تغذي وتطعم قلبه روافد (شرايين ) كونية غير محدودة زماناً ولا مكاناً.وقد عرف اجدادنا المرويون ومن بعدهم الملوك النوبيين فى عصور الممالك النوبية المسيحية هذه الحكمة ،وحاولوا قدر استطاعتهم التواصل مع بؤر الحضارة الانسانية في بيزنطة والعراق ومصر قبل تبلور وتجّلي المسار الحضاري الغربي،وذلك من خلال تطوير كتابة لغتهم بحروف مفهومة من قبل الغرب (القبطية،الاغريقية القديمة،وحروف مروية ليس لها نظائر لفظية فى تلك اللغات الكلاسيكية).
حاولت النوبة منذ المرحلة المروية حتى القرن الثالث عشرة التواصل مع الغرب لغوياً ودينياً.بل انها تقدمت على اوروبا القرون الوسطى فى بعض الملامح الحضارية مثل فصل الدين عن السياسة والادارة المدنية،والمساوآة بين الجنسين فى تبوء اعلى مناصب الحكم.لكنها خسرت هذه المزايا الحضارية بسبب اهمالها خلال القرن الثالث عشرة للغتها المكتوبة والموحّدة لصالح لغة (سماوية) وهى لغة القرآن،ما اضر ايما ضرر بهُويتها الشمولية وبمسارها التقدمي الذى ظل حاسماً وحازماً ومحسوماً الى حين ظهور الاسلام فى الساحة.
بالطبع لا جدال فى ان تعلّم اللغات الحيّة لا سيما الانجلوفونية والفرانكفونية ضرورية للغاية وهامة فى التواصل مع العالم لمعرفة ما يجري فى هذا الكون.لكن الاهم فى نظري كنوبي فخور بانتمائه للنوبة هو ان يُقبل صغارنا على تعلّم اللغة النوبية والتخاطب بها لانها الاساس المتين للحفاظ على الترآث وضمان استمراريته.وكم يحزنني شخصياً عندما اجد فى قاموس لغة نوبية مثل ذاك الذى سعى لانجازه القاضي تشارلز ارمبرووستر (Charles H. Armbruster) عن اللهجة النوبية الدنقلاوية فى مطلع القرن العشربن. ففى اقل من مائة سنة اختفت كثير من مفردات اللغة والخوف الان على ما تبقى من المفردات.ويحزنني اكثر انني لم اسع لتعليم اولادى اللغة النوبية لاني تعلمتها من ابوي وليس من مدارس حكومية،وربما لاني كنت تحت طائل ايديولوجيات لا تمت بصلة بالحضارة النوبية،بل فى الواقع ضدها باعتبار اللغة النوبية "رطانة" تفتح باب الشرك بالله باهمال تعلّم لغته تعالى للعالمين.وعلى حين استجاب غالبية الذكور النوبيين للضغط الاجتماعي التقليدي بتعلّم العربية وحفظ سور من القرآن تمكّنهم من اداء الصلوات،ظل الكثير من الامهات النوبيات التقليديات يمارسن طقس الصلاة من دون ترتيل للآيات القرآنية والاكتفاء بتعبيرات تنم عن ضعفهن امام قدرة الخالق كأن يرددن بالنوبية ما معناه:"يا الله انا بقرتك ومعزتك….الله اكبر".اما فى صلاة الجمعة فبعض كبار السن من الاناث كن يذهبن الى الجامع لتأدية الصلاة خلف الذكور فى مكان منفصل يمكّنهن من متابعة الذكور فى القيام والركوع والسجود وسماع خطبة الجمعة وان لم يفهمن معنى مفرداتها.فهن يدركن بايمان ان كل ما يُقال فى هذا اليوم وما يُفعل هو فى سبيل الله وجالب للاجر الالهي الغزير. ويهمني ان اذكر هنا ما ظل يذكره كثير من الدارسين ان فضل بقاء اللغة النوبية حية الى اليوم يرجع لمثل هؤلاء الامهات النوبيات التقليديات اللآتي حملن مرات فى حياتهن ومماتهن .ولعل مرات الحمل فى حياتهن كانت هى الأسهل اذ لم تتعدى مدى اية منها التسعة اشهر، اما حملهن للتراث،العادات،الثقافة،الاخلاق….الخ فهو مدى التاريخ النوبي منذ ماضيه ويا ليت حاضره ومستقبله ايضاً.
3-الرغبة الملحة لدى النوبيين فى الاندماج والتوافق مع غيرهم فى مدن السودان ومصر:
النوبى بطبعه انسان راغب دائماً فى التواصل بل والاندماج مع الاخر رغم بعض الشك فى ذهنه عن اخلاص الآخر له. فهو فى تنقلاته المستمرة فى الحضر السوداني يطمع للاندماج فى مجتمعه المحلي،بل الاسهام فى حيوية ذلك المجتمع.لذلك فهو/هى على استعداد للتنازل عن حقه فى الاحتفاظ بلغة امه و قومه من اجل جاره المستعرب حفاظاً على الجيرة وتباهياً بل مزايدة بالتقدمية وفكرة "اننا اكثر حضارة منك"..فالنوبي اينما كان يعتز بخصوصيته اللغوية رغم جهله التام بمصادرها وتاريخها.فهو يرى ان محاولاته مع جيرانه فى الحضر بدافع حق الجيرة ولو بلغة عربية "مكسّرة" مكسب حقيقي له ولاسرته.ويكفيه انه يواظب على الصلاة فى الجامع او المسجد المجاور ويبدي كل الاحترام للمؤذن والامام فى تلك الأماكن ويُقابل بالمثل وربما اكثر منه.فالقضية الأهم بالنسبة له هى اندماج اسرته فى بيئة الحضر والتكيّف معها ولو على حسّاب انتمائه الاثني الخاص الذى يجهل هو/هى خلفياته التاريخية ما عدا الحقبة الاسلامية حيث أُخرجت النوبة من "الظلمات" الى "النور" فى رأي علماء دين نوبيين كان بعض اسلافهم "متفقهاً" مسيحياً.ولعل هؤلاء كانوا هم طلائع المسلمين فى النوبة لكونهم عرفوا قبل غيرهم بوجود نصوص "سماوية" وباخبار انبياء سابقين.

4-جهل غالبية النوبيين بحقائق تراثهم الحضاري وميلهم للاستخفاف بذلك التراث بسبب قلة الوعي بابعاده التى يصعب على غير المتعلم-المثقف اجتلائها.
انظمة التربية والتعليم فى السودان ومصر عقب استقلال الدولتين وتحررهما من الاستعمار الانجليزي لم تهتم بالقدر اللائق والكافي بالتاريخ النوبي ودور النوبة فى مسار الحضارة الانسانية.بل على العكس غالتا فى تفتيت النوبة جغرافياً وديموغرافياً بحجج التنمية الاقتصادية بالاصلاح والتطوير.ما ادى الى تعميق انسلاخ النوبيين عن تراثهم وتضخيم الجهل واللامبالاة بلغتهم التى حظيت بالكتابة النصية قبل حوالي الف عام من كتابة اللغتين الامازيغية والكردية.وذلك عندما كانت تسير على نهج الحضارة الاوربية بل كانت تتقوق عليها فى مجالات فصل الدين عن السياسة،والمساواة بين الجنسين فى الحكم.وفى هكذا وضع نرى ان اولوية كليات الآداب فى الجامعات السودانية يجب ان تكون "سودنة" التاريخ النوبي بكل تجلياته السياسية،والاقتصادية واللغوية عبر التاريخ الى درجة يفخر بها كل سود العالم.وهذا هو اساس هوياتهم ومصدر احترام العالم لهم.
5-اعتقاد كثير من النوبيين بان لغتهم لا تصلح الا للتداول محلياً: وهذا زعم صحيح فى الظروف الحالية للغة التى تجعلها ثانوية جداً وهامشية جداً مقارنة باللغات "الحية" عالمياً.والعزاء للنوبيين انها لم تمت بعد "اكلينيكيا" وماتزال امكانية استعادة عافيتها قائمة لو خلص واخلص النوبيون لهويتهم الحضارية وازدادوا وعياً بتاريخهم الحقيقي بعيداً عن شوائب الاوهام والانحرافات ومشاعر التأقزم التى دأب اعداء النوبة على ترسيخها فى افئدة غالبية النوبيين.فاللغة النوبية لن ترقى ابداً لمصاف اللغات الحية السائدة حالياً،لكنها قادرة –ان كُتبت مرة اخرى وادخلت رسمياً ضمن مواد التعليم فى المدارس الكائنة فى المناطق النوبية-على تقوية وتوحيد الهوية النوبية الى درجة تكفي لربط الماضي بالحاضر وازالة مشاعر الدونية والاستصغار التى طالما حاول اعداء النوبة ترسيخها فى وجدان وعقول النوبيين منذ قرون.ومايؤسف له حقاً هو ان بعض هؤلاء الاعداء هم من النوبيين المستعربيين من ذوي اوهام العروبة والاسلام رغم الصرخات المكتومة ظلماً لمكنونات دماء شرايين قلوبهم المهزومة.فحاجتنا اليوم كنوبيين لاعادة احياء اللغة النوبية ليست بدوافع سياسية لانفصال اثني او لتميّز عرقي عن اعراق بشرية اخرى فى السودان ومصر بقدر ما هى من اجل ربط ماضي التراث بحاضره ومستقبله في افئدة ووجدان الاجيال المتعاقبة من النوبيين سواءً المتحدثين منهم باللهجات النوبية،المستعربين،او المستغربين.فهذه اللغة كانت قبل قرون من الزمان هى المعبّرة عن "الرؤى الكونية-World view "للنوبيين فى كلما يتعلق بافكارهم عن قضايا الحكم،والدين،والمجتمع،والحرية،والاستعباد.ولغة كهذه يجب ان لا تندثر وبخاصة فى وجدان اهلها وعقولهم.
اللغة النوبية القديمة منذ اعادة اكتشافها فى مطلع القرن العشرين.
تم طمس الحديث عن اللغة النوبية المكتوبة منذ القرن الرابع عشر الميلادي،اي منذ زوال الممالك المسيحية فى السودان،و استيلاء المسلمون على مقاليد الحكم فى تلك المناطق.ويبدو ان المؤرخين فى الشرق والغرب قد تجاهلوا لاسباب نجهلها نحن اليوم مقال منشور عام 1811م فى صحيفة فرنسية (ET.Quartrmere) عن تاريخ مصر يشير الى وجود وثائق عائدة الى القرنين العاشر والحادى عشر،تخصان المؤرخين "يوتخيوس Eutychius"و"ابوصالح الارمني" تشير بوضوح الى ان النوبيين المسيحيين قد كتبوا لغتهم بخليط من الحروف الاغريقية والقبطية والسريانية.(هذه المعلومة تجدها فى كتاب ف.ل.جريفيث (F.L. Griffith):The Nubian Texts of the Christian Period،طبعة برلين عام 1913).
فى تلك المرحلة من تاريخ القرون الوسطى حيث نشطت الحركة الكنسية اكثر مما فى السابق عبر العالم وتوسعت فى المقابل الطموحات الاسلامية فى افريقيا الشمالية،اصبحت النوبة بمثابة بؤرة التغير الاجتماعي فى افريقيا السوداء.اوروبا ارادتها مسيحية كما كانت منذ القرن السادس الميلادي، وارادها الشرق الاسلامي فى مصر ان تكون مسلمة/عربية.ولا ادل على جنوح ولاة مصر المسلمين الى محاربة تثقيف النوبيين مسيحياً ولغوياً من مواقف صراع بين البابا "يوساب الأول"، الثاني والخمسين فى بطاركة "الكرسي المرقسى (831-849م) فى الاسكندرية ووالي مصر صراع اجج أواره خصوم للبابا من الكنيسة نفسها مثل اسقف مصر "انبا يوحنا"الذى اوشى ب "البابا يوساب" "لدى قاضي القضاة الذى كان يتحين كل فرصة للاساءة الى البابا يوساب.فحدث انه كان من عادة ملوك الحبشة ان يرسلوا بعض الشباب من افريقيا الى بطريك الاسكندرية للعناية بتعليمهم، فكان البابا يهتم بهم ويعلّمهم فى مدرسة بالبطريكية:واستغل أسقف الفسطاط ذلك الامر وأعلم القاضي بامر هؤلاء الشباب..مدعياً انهم ليسوا مسيحيين،متهماً البابا يوساب بانه يحاول ان يحولهم الى المسيحية، فما كان من امر الحاكم الا ان ارسل على الفور من يصطحب البابا يوساب اليه قسراً وعنوة.وعند حضور البابا ،ابتدره القاضي بالتعنيف،متهماً قداسته بخطف الصبيان والشباب وبضمهم الى الكنيسة.حاول البابا ان يوضح الأمر للقاضي،لكنه امر باستحضار اولئك الشباب ،ثم هددهم وأجبرهم على تغيير دينهم،فاخذهم القاضي من البابا وقسّمهم على اعيان مصر ليكونوا لهم خدماً وعبيداً".(الأنبا اراميا،الاسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الارثودكسى.جريدة المصري اليوم،عدد 4752 ،18/6/2017).وبالطبع اصبح هؤلاء الشباب وذرياتهم مع مرور الوقت مصريون لغة وعادات بعيدة ربما عما تربوا عليه فى بيئتهم النوبية الاصلية.ورغم ذلك نعلم علم اليقين ان اللغة النوبية باقية حتى يومنا هذا،وعلى النوبيين تطويرها وحفظها لابد الآبدين.وذلك لان اللغة هى هوية اى قومية مستقلة عن قوى احتلال او استعمار تحاول فرض هيمنتها على الشعوب الاخرى.ولا حرية ولا كرامة لقوم فقد التقدير والاحترام للغة خطابها عن عواطفه ومشاعره وكل ما يريده من اجل البقاء والاذدهار.ولا انسى انه فُرض علينا ونحن فى المرحلة الابتدائية "بعد الاستقلال غرامة قرش صاغ ""لكل تلميذ يتم ظبطه يتحدث بلغته المحلية مع زميل له. وهذا الاجراء كان مصدره الحكومة الوطنية آنذاك وليس الاستعمار. وكلنا اليوم كنوبيين نرجع دوافع السودانيين المناوئين لاستمرارية المحافظة على لغتهم ،شفاهة وكتابة،الى عنصرية زائفة من قبل "متطرفين مستعربين" من اهل النوبة كارهين لماضيهم غير الاسلامي بحجة انه "جاهلية" تفضي الى نار جهنم و"بئس المصير".ومن اغرب الامور واعجبها فى نظري ان دعاة العروبة والاسلام وسط النوبيين لا يأبهون اطلاقاً ولا يدركون مدى عنصرية وصف الاوربيين والعرب لهم بانهم اقل شأناً حضارياً بسبب لون بشرتهم.فهم فى نظر الاسيويين والقوقازيين،والاوربيين عموماً "نوبيون واثيوبيون" اى من ذوي الوجوه السوداء.والسواد فى عرف البيض عموماً مؤشر للتخلف والبدائية.ولا ادل على ذلك من قول زميل عربي لاخر القى كلمة اعجبته "بيّض الله وجهك".

ابرز الجهود العلمية لاعادة احياء اللغة النوبية كتابياً:-
بدأ اهتمام الاكاديميين الغربيين بدراسة لهجات اللغة النوبية منذ العقد الاخير من القرن التاسع عشر الذي شهد بداية الحكم البريطاني للسودان تحت الراية الخديوية.والغريب ان روّاد الدارسين لم يكونوا بريطانيين،بل من الجنسية الالمانية من امثال كارل شميت (Karl Schmdit) و هاينريش شيفر (H. Schafer" الذّين اكتسبا قدراً من المعرفة باللهجة النوبية المحسية.وتمكّنا من خلالها فك الشفرة وقراءة اللغة النوبية القديمة كما كانت فى زمانها.وذلك بفضل شراء شميت عام1906م (صدفة) فى القاهرة ولصالح المكتبة الملكية فى برلين نصوص مجتزئة وغير متكاملة كتبت على رق جلدي.وبحكم المامه باللهجة النوبية المحسية تمكّن من قراءة بعض نصوص انجيل العهد الجديد.وكان ذلك فى عام 1906م حيث تبيّن ان تلك النصوص لم تكن قبطية قطعاً،بل انها نوبية تتميّز بثلاث احرف نوبية بحته تعبّر عن مخارج الفاظ نوبية لا وجود لها فى لغات اخرى (وربما مروية).
وخلال سنتين اوثلاث من اكتشاف اللغة النوبية القديمة توافرت وثائق اضافية تضمنت نصوص كاملة باللغة النوبية القديمة عن النوبة المسيحية اودعت فى المتحف البريطاني.وقد ساعد توافر هذه الوثائق على تضامن خبراء اللغات فى بريطانيا والمانيا للعمل من اجل استخلاص علمي لمسار اللغة الكنسية النوبيةخلال القرون الوسطى.
وفى عام 1908م تفرغ هاينريش شيفر لقضايا اخرى غير اللغة النوبية القديمة وحرص ان يتولى البريطاني قريفيث (F.L.Griffith) ادارة ملف اللغة النوبية القديمة والاستمرار فى تطويره.وهذا بالظبط ما فعله قريفيث بمساعدة زوجته فى "سيرين كيسى Serren Kisse" ،او كنيسة "سرين متو شرق" ،وهى على الشاطىء الشرقي من النيل ،على بعد 10 اميال جنوب "فرس Pakhoras"،و15 ميل شمال وادي حلفا.
ويذكر قريفيث ان معظم النصوص النوبية الهامة وُجدت فى سرا،و بعضها فى منطقة حلفا عموماً وفى "در"،وكلها من دون تأريخ.
جهد اخر معتبر بذله عالم لغات بريطاني خلال الربع الاول من القرن العشرين وهو G.W.Murray بناءً على جهود علماء المان سبقوه فى المجال،ومن ابرزهم "Lepsius" و"Reinisch" و "Almkvist".ومن ثم جاء كتابه الموسوم:" An English-Nubian Comparative Dictionary"والصادر من جامعة اكسفورد عام 1923م.وفى هذ المؤلف يوضح الكاتب علاقة اللغة النوبية باللغات الافريقية السودانية والحامية والسامية مع التركيز فى ان اللغة النوبية هى اقرب ما تكون للغات النيلية مثل "Bari-Masai" وقريبة اكثر من حيث "القواعد" للغات "كوناما" و "الدينكا" و "الشلك".كما يرى المؤلف ان اللغة النوبية الحالية بعيدة عن "المروية والقبطية والهيروغلافية".وكل هذه المسائل التى اثارها المؤلف قبل حوالي قرن من الزمان تظل مفتوحة حتى اليوم لحسم علمي خالي من شوائب التحيّز العرقي والسياسي.
خلال الربع الثاني من القرن العشرين نلاحظ ركوداً نسبياً فى البحوث والدراسات عن اللغة النوبية فيما عدا بعض بحوث ميدانية قادها بريطانيون من امثال السير هارولد ماكمايكل ورتشارد هيل فى ثلاثينات واربعينات القرن الماضي.وفى هذا الوقت يبدو ان علماء الآثار والانثروبولوجيا،والتاريخ الغربيين قد استسلموا لنظرية ان النوبة واللغة النوبية لم تكن سوى تابعة متخلفة وبدائية للحضارة المصرية.وان اللغة النوبية هى بدورها لغة "نيلية" قديمة لم تسعف وجودها محاولات الغربيين لاحيائها كتابياً بعد تحّول النوبة الى الديانة المسيحية فى القرن السادس الميلادي.ورغم ذلك لا يمكن انكار ما قام به علماء لغات غربيين (وبخاصة المان) من اسهام فى بقاء اللغة النوبية رغم عدم اعتراف الحكومات السودانية الوطنية المتعاقبة (ورموز نوبية تابعة لها) بالقيمة التاريخية والحضارية لهذه اللغة.فالجميع لم يرى قيمة مميزة لهذه اللغة من لغات اخرى سودانية لم ترق كتابياً الى مرتبة اللغة النوبية التى ظلت مؤثرة شفاهةً وكتابةً على التاريخ النوبي مدى ثمانية قرون على الاقل.بل ان تلك الحكومات لم تعى باهمية تلك اللغة فى بلورة هوية سودانية جامعة لافريقيا وآسيا على حد سواء.
كسر ذاك الجمود والجهل المعرفي بقيمة اللغة النوبية وكرامتها عالم لغة من ابناء النوبة خلال خمسينات القرت الماضي.وهو محمد متولي بدر الذى حظي بدعم مادى من اُسر نوبية مرموقة فى الخرطوم لتدريس اللغة النوبية فى معهد الدراسات الافريقية والاسيوية التابع لجامعة الخرطوم.وخلال وجوده هناك اصدر فى عام 1955م كتاب اللغة النوبية (كتاب عن تاريخ النوبة،واللغة،وقواعد اللغة، والمفردات القاموسية).واصدر كذلك كتاب "اقرأ باللغة النوبية" عام 1974،ثم كتاب " حكم وامثال نوبية" عام 1976م".ويبدو ان هذا العالم النوبي المتميّز كان على وصال ايضاً ببعض الغربيين المهتمين بالتراث النوبي ومن ابرزهم P.L.Shinnieالذى دعمه اكاديمياً خلال تدريسه فى جامعة الخرطوم فى الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين قبل انتقاله للتدريس فى غانا ثم كندا.
فى ستينات القرن الماضي بدأت الهُوية النوبية فى التبلوّر بفضل التهجير الجائر للنوبيين من اراضيهم النيلية التي لم يتوقعوها فى اكثر احلامهم "الكابوسية" ضراوة. بيد ان العزاء الفعلى للنوبيين كانت التحول الجذري للخيال الغربي وتصوره نحو الاعتراف بدور هام واساسي للتراث النوبي فى قيام الحضارة المصرية منذ ظهور الاسرة الاولى فى تاريخ مصر.تلك الاسرة التى تأصلت فى شرق المتوسط وجنوب اوروبا ثم ترحل غازية لمصر ضد تيار مناهض لها من نفس جنسيتها،على حين غياب العنصر الاصلى النوبي خلف تضاريس جغرافية قاسية بعيدة عن نفحات البحرين الاحمر والاوسط، وربما النيل نفسه.
لم تشهد السبعينات والثمانيات من القرن الماضي اهتماماً كبيراً باللغة النوبية القديمة.بيد وجود اهتمام اكاديمي واضح بنظريات "الفراعنة السود"،ودورهم فى مسيرة الحضارة المصرية.
وقد اختلف الوضع فى التسعينات حيث اصبح للباحثين الامريكيين المهتمين باللغة النوبية القديمة فرصة دعم مادي للانشغال فى المجال.وجاء فى مقدمة المستفيدين من العرض عالم اللغات الامريكي جيرالد براون (Gerald M.Browne)،الاستاذ فى جامعة الينوي_شامبينز. والطبعة الاولى لقاموسه ":Old Nubian Dictionary" صدرت فى عام 1996م .كما صدر له عام 1998 كتيب بعنوان "Old NubianTextual Criticism".وكلا الاصدارين فى غاية الاهمية للدارسين والباحثين فى مجال اللغة النوبية القديمة.
اشهر النوبيين ذو الاهتمام العميق باللغة النوبية بعد محمد متولى بدر هو الدكتور مختار خليل كبارة (1952-1997م)،الذى تخرج فى جامعة بون/المانيا الغربية فى عام 1985م بدرجة دكتوراه فى علم المصريات.فقد ادرك هذا الشاب النوبى منذ التحاقه بجامعة القاهرة لدراسة الآثار ان التوجه الى المانيا هو الخيار الأمثل له لاسيما وان العلماء الألمان هم من جدوا واجادوا فى دراسة اللغة النوبية القديمة اكثر من غيرهم من الغربيين.وحسناً فعل عندما انصرف جزئياً عن الاهتمام بالآثار المادية الى الآثار الثقافية وفى مقدمتها لغة امة واكبت وساهمت فى اقدم الحضارات الانسانية.ورغم ذلك لم تنل من خبراء المصريات،وبخاصة المصريين منهم الا القليل جداً من الاهتمام.
خرج علينا الكتاب الشهير للمؤلف الشاب مختار "اللغة النوبية :كيف نكتبها؟"فى عام 1997م.وقد وقف عدد من المراكز النوبية فى السودان وخارجه مساندة وداعمة لانجازه التاريخي بشكل ربما لم يرق لمستوى طموح الشاب نفسه.لكن حدث فى القاهرة ان "مركز الدراسات النوبية والتوثيق" الذى كان قائماً حينذاك بدعم مالي نوبي متواضع،عكف على برنامج لللغة النوبية على اساس كتاب مختار كبارة.وقد شارك فى البرنامج اثنان من كل فئة نوبية (فديجه،كنوز،محس،دناقلة).وامضينا عامين فى فى لقاءآت اسبوعية تمخضت عن صدور كتاب "تعلّم اللغة النوبية"،الذى تضمن فهرس موضوعاته:
مقدمة وتعريف: "النوبية القديمة واستخدامات اللغة فى النوبة".د.مختار خليل كباره وكاترين ميلر.
الباب الاول:الكتابة باللغة النوبية للمبتدئين.
الباب الثاني:قواعد اللغة النوبية للمبتدئين.
الباب الثالث: قواعد اللغة النوبية.
الباب الرابع نصوص لغوية نوبية.
وقد استخدم الكتاب فى تعليم اعداداً محدودة من شباب وشابات النوبة خاصة فى مصر.ولسؤء الحظ توقف المركز عن نشاطاته فى هذا المضمار فى القاهرة،وكذلك في الخرطوم.ولم يُتح له الوصول والتغلغل فى الارياف النوبية ولا المصرية لاسباب مادية واخرى سياسية وعقائدية.وذلك على الرغم من وجود خبراء بارزين فى اللغة النوبية-القديمة والحديثة-فى القطرين.
ومن انجازات اللغويين النوبيين فى تسعينات القرن الماضي كتاب عن اللهجة الكنزية وقواعدها الفه محمد احمد سليمان،عنوانه "القول النوبي:لسان المجتمع الكنزي".صدر عن دار الكتب القُطرية،القاهرة،1997م .
وفى يناير عام 1998م صدر القاموس النوبي (نوبي-عربي-انجليزي) عن مكتبة الشروق/القاهرة،ومؤلفه الاستاذ يوسف سمباج. وميزة هذا القاموس المفيد جداً انه يتناول جميع اللهجات النوبية (الفديجا،المحسية،الكنزية،الدنقلاوية).
وفى نفس العام يصدر عن مؤسسة ابن خلدون/القاهرة كتاب "نحو محاولة لكتابة اللغة النوبية"،ومؤلفه الدكتور احمد سوكارنو عبد الحفيظ.و فحواه توضيح لقواعد اللغة النوبية المعاصرة.
وفى 1 يونيو من عام 1904م ينجز الاستاذ حسين مختار كبارة بحث جيد تحت عنوان "مبحث فى أركان و قواعد اللغة النوبية" مع التركيز على لهجة "الفديجا/المحس".وذلك رغم ان كل ما جاء فى المقال يمكن تعميمه على اللهجات النوبية الاخرى.
وفى عام 2012م يأتينا من مكتبة الاسكندرية /مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي كتاب عن رحلة البروفسيرة آنا هوهينفارت". رحلتها الى النوبة تمت ترجمتها الى العربية والنوبية القديمة بواسطة الاستاذين عادل مرسى ومحي الدين صالح الشاعر المعروف فى مجال اللغة العربية.
نحن على يقين ان اللغة النوبية مهما كانت جهودنا الدؤبة لاحيائها لن ترق يوماً لمرتبة لغات الروبوتات لاننا لم نخلق الآلات الناطقة كما فعلت الحضارة الاوربية والاسيوية المتطورة .ولكن عجزنا عن الوصول الى ذاك المستوى مؤقتاً لا يعني اندثار هويتنا النوبية الى الابد.فكل الامم المتقدمة تعنى بالاحتفاظ على تراثها وارثها التاريخي،وعلينا ان نقتفي اثرها لتحقيق قيمة ارثنا الحضاري فى تقدم الانسانية بانجازاتها المتميزة.نحن لن نلحق بهذه الامم فى تطورها حالياً،كما اننا لن نعاني من طغيان الآلة على الانسان واحتكارها لوظائفه،وتهديدها للقمة عيشه،بل وباستقلالها بلغتها الخاصة فى التخاطب مع بعضها دون ان يفهم البشر،لكننا سوف نظل نصّر على حقيقة ان النوبة ولغتهم،اساس هويتهم،اسهمتا ايجابياً فى مسيرة الحضارة الانسانية رغم اصرار العنصريتان العربية والغربية حتى اللحظة على ان النوبيين (السود/السودان/اثيوبيا/افريقيا ما وراء الصحراء) لم يتعد دورهم فى تاريخ الانسانية دور العبد،الخادم الطواشي،الحارس…وغيرها من المهن المهينة.فاللغة النوبية حتى يومنا هذا-رغم فقدانها لبعض مفرداتها "الحامية"لصالح اخرى "سامية""- ما زالت قادرة على تعزيز الهوية النوبية الافريقية-الآسيوية بفاعلية اكثر من اللغتين "الامازيغية" والسواحيلية"،لانها "الأم"،والأسبق كتابةً وتواصلاً مع اليونانية القديمة والقبطية.بل انها اوجدت فى ابجديتها احرف الفاظها "نيلية"بحته.اذاً هى لغة جديرة بالاحياء خاصة فى موطنها "السودان" الذى ما زال يعيش ويتعايش مع اوهام ان "السودان" لا يعني "السود" فى نظر العالم وخصوصاً العرب. "بيض الله وجهكم" والسلام.
ورغم كل التحيزات العنصرية التى تواجه النوبيين ولغتهم ،واحتقار هذه اللغة من قبل العرب والمستعربين فى مصر والسودان يبذل كاتب هذه السطور جهداً يومياً من اجل متابعة لغة "امه" (محسية/دنقلاوية/ نوبية اصيلة) ومآلاتها.ويعكف على العمل لاخراج قاموس نوبى جامع بالاحرف العربية،والقبطية،واليونانية القديمة،والانجليزية.واتمنى التوفيق واترحّم على شهيد النوبة الكبير، الشاب خليل كبارة ومن قبله العالم اللغوي محمد متولى بدر.جاهدا،واجتهدا،واستشهدا.
وتسير المسيرة الى الأبد الى ما شاء الله ان شاء النوبيون.
د. شرف الدين الملك.