العلمانية و أنظمة الحكم فى السودان

شرف الدين حمد الملك - 07-07-2021

د. شرف الدين حمد الملك.
باحث نفسي_اجتماعي.
القاهرة.

كل النُخب المتعلمة فى البلاد "النامية" تحلم ان تعُم الديمقراطية فى ارجاء مجتمعاتها. ولكن دون تحقيق
الحلم عوائق هم على دراية تامة بكنهها لكنهم يعجزون عن حلها وتخطيها،اما للحفاظ على مكاسب شخصية او رهبة من غضب العوام. وضمن العوائق ارتفاع نسبة الأُمية،وتضخم الروحانية والغيبية، وسيطرة الطائفية والقبائلية، وتفشي الفقر والعوذ، و عدم الفهم الدقيق لمقتضيات الديمقراطية مثل التعددية والفردانية والعلمانية. وهذه الاخيرة هى موضوع هذا المقال لسببين, اولهما ان "العلمانية" هى اكثر مقومات الديمقراطية ضبابية وسوء فهم، والثاني هو اعتقادي الخاص بأن "العلمانية" هى العنصر الأهم فى الديمقراطية الحقيقية. وذلك لأنها تقع فى صميم عملية انتاج اجيال لا تؤمن بالخرافات والشعوذة وغيرها من الأُمور المعرقلة لتطور المجتمعات والقوى البشرية. فالأذهان النقية من شوائب الفكر الخرافي هى الحرة والشجاعة والقادرة على الفعل الديمقراطي الحقيقي واقتحام ساحات المجهول من دون وجل او نكوص.

معنى مصطلح "العلمانية".
تعني "العلمانية" ميل الفكر للأخذ بالبراهين العلمية (الامبريقية) فى تفسير الظواهر، وعدم اللجوء للتفسيرات الماورائية (الميتافيزيقية) لتلك الظواهر. وعليه فان "العلمانية" كمنهج لفهم وتفسير الظواهر ينحاز لا الى "العقلانية" فى شكلها المطلق ولكن الى الجزئية منها التي تبني على اساس الادراكات الحسية المجردة او الآتية عبر وسائل ادراكية اصطناعية. ولذلك فليس فى الفكر العلماني مجال لقبول معارف ميثولوجية او ثيولوجية كحقائق مسّلم بها مطلقاً.ورغم ذلك فان العلمانية لا تنكر وجود مثل تلك الحقائق كمعارف انسانية موروثة وذات مغزى فى اطار النمو الحضاري البشري. وفى هذا دحض لمقولة ان العلمانية فى جوهرها " ملحدة". فهى فى الاصل نظام معرفي مفتوح للشك قبل اليقين وللتساؤل قبل الاستكانة، وهذه ليست من الالحاد فى شىء، بل هى باعثة ومحفزّة لإعمال العقل فى فهم كل شىء وتحمّل تبعات المنحى كيفما هي.
وعن نشأة الظاهرة في الثقافة الغربية بطريقة منهجية يعتقد العلامة روبرت نسبت (Nisbet, 1980) ويوضح في كتابه الموسوم "تاريخ فكرة التقدم" أن لمحاضرات المفكر "ترجو" Turgot ما بين عام 1750 و 1751 ميلادية اسهاما ريادياً في انتشار العلمانية في الثقافة الغربية. كذلك كان للمفكرين الذين تأثروا بتعاليم "ترجو" من امثال Condorcet و Comte و Marx و Spencer و Mill اسهام كبير فى ترسيخ الظاهرة في الغرب. وذلك من خلال محاولتهم الدؤوبة لتفسير الظواهر والحوادث على أسس فيزيقية وموضوعية لا صلة لها مباشرة باللاهوت والميتافيزيقيا. ولفظة "مباشرة" في هذا السياق مهمة لكونها تبيح الاعتقاد في امكانية وجود صلات غير مباشرة. فمن المؤكد أن عددا كبيرا من مشاهير العلمانيين الغربيين كانوا وما يزال يؤمنون بوجود محرك اساسي للكون والمكونات. وعلى هذا لا تعنى العلمانية بالضرورة الإلحاد، ولكنها تعنى التحيز العقلاني نحو التفسيرات الوضعية للظواهر. وتؤمن كذلك بان الامور الاخلاقية ترتبط بالضمير الانساني اكثر من ارتباطها بالتدين كما يعتقد عوام البشر.
ولعل أحدث وأوضح مثال لهذا التحيز في الفكر الغربي بعد اضمحلال الفابية والوجودية الملحدة والماركسية هو علم الأحياء الاجتماعي Sociobiology. ففى نظر رائد الحركة E.O.Wilson بجامعة هارفارد الأمريكية أن السلوك الدينى نفسه يمكن علمنته من خلال فهمه على أسس بيولوجية/اجتماعية. فمن منطلق حقيقة أن غالبية الأفراد في أي مجتمع سواء صناعي أو غير صناعي، شيوعي أو رأسمالي، لديهم معتقدات دينية واضحة، فان ويلسن يرى أن السلوك الديني هو سلوك منتخب بيولوجيا وفق مبادئ نظرية النشؤ والارتقاء.
ويأتي انتخابه لكونه يهدف للمحافظة على بقاء النوع البشرى من خلال تنظيم وتقوية العلاقات الإنسانية ومحاربة غشيان المحارم (Incest) ضماناً لتنوع المورّثات وتشجيعاً للايثارية (Altruism) بخفض الأنانية….الخ. ويلاحظ هنا أن الفكرة قريبة لحد ما الى مقولة أن "الإسلام فطرة" ولكن يكمن الاختلاف الجذري في مسألة الغائية Teleology وفى مفاهيم النشوء والارتقاء الخاصة ببدء الخليقة.
ولئن اختلفت آراء ومواقف العلمانيين تجاه اللاهوت فإنها تجتمع متفقة حول عدد من البنود الأساسية وهى كما يلي:-
1- العلمنة هي بمثابة الثمار الشرعي والمحتوم للعلوم الدنيوية.
2- التدين أمر خاص بالفرد وحده.
3- كل الأديان فى الدنيا متساوية في الوظائف.
4- للمؤسسات الدينية في أي مجتمع وظائف وأعباء محددة ومتميزة عن وظائف وأعباء المؤسسات غير الدينية، وأن مدى وضوح التميز والتمايز هو انعكاس لدرجة الارتقاء في سلم الحضارة الإنسانية.
العلمنة والاسلمة:
من منظور الحركات الإسلامية المعاصرة تعتبر العلمنة حركة مناهضة للإسلام. بل ان نجد أن التيار الاسلامى المعاصر يعتقد بأن:
1- العلمنة هي اعطاء العلوم والمعارف الدنيوية أولوية وأهمية على العلوم والمعارف الدينية في شرح وتفسير الظواهر.
2- التدين أمر خاص بالفرد والمجتمع على حد سواء.
3- الاسلام هو الدين الاقوم والأحق.
4- الإسلام هو قوام المجتمع واساس كل مناحيه.

مع الفوارق الكبيرة والواضحة بين التيارين في البنود المذكورة أعلاه لا نستغرب عداء التيار الاسلامى المعاصر للعلمانيين. وكأن أركان الإسلام الخمسة لم تعد محكا للاسلام. اذ أن هناك شروطاً معرفية تسبقها فى الأهمية، وهى من الخطورة على سماحة الإسلام بحيث انها تكفّر العلمانيين المسلمين الذين هم شأنهم شأن العلمانيين المسيحيين – متدينون، رغم اكتسابهم لعلوم ومعارف دنيوية. ولما كان التيار الاسلامى المعاصر مهيمنا على أوجه الحياة والحكم في السودان فقد عنّ لي كسوداني علماني ومسلم أن أحاول معرفة سر عداء الإسلاميين أو "الاسلاماويين" -كما أسماهم المفكر السوداني حيدر ابراهيم- للعلمانية والعلمانيين، سواء كانوا مسلمين او ملحدين أو من أديان أخرى، ولكنهم سودانيون. وفى ذهني فرضية مؤداها أن السبب الحقيقي يكمن في أن السودان لم يحظ فى تاريخه الطويل بنظام حكم وطني ومستنير يأخذ بمفهوم العلمانية المنهجية ويوعّي به المواطنين. وكل ما هناك أنظمة وطنية مارست علمانية انتهازية وأخرى حاربت العلمانية بضراوة دونما المام حقيقي ومتعمق لطبيعتها. ورغم تباين المواقف تجاه القضية منذ استقلال السودان فان النص مقيم وثابت فى الدستور ومؤداه ان الاسلام هو دين الدولة السودانية وهو المصدر الرئيس للتشريعات. لكننا نجد احيانا أنظمة حكم وطنية وأخرى غير وطنية حاولت في حدود معطياتها الزمانية والمكانية دفع البلاد نحو التقدم الحضاري، وجاءت أنظمة اخرى أضاعت ثمار جهود الخيرّين وعرقلت مسيرتهم التاريخية باسم الدين.
فالانظمة التى تتالت فى السودان منذ القدم هي:-
1- الممالك النوبية المسيحية: (من القرن السادس الميلادي حتى القرن الرابع عشر).
2- سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء:(من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر).
3- الحكم التركي الأول: (1820 – 1885م).
4- المهدية (حكم عبداله التعايشي) (1885 – 1898م).
5- الحكم الإنجليزي – التركي (المصري مجازا) (1898 – 1924م).
6- الحكم الإنجليزي (1924 -1956م).
7- حكم وطني مدني (1956 – 1958م).
8- حكم وطني عسكري (حكم عبود) (1958 – 1964م).
9- حكم وطني مدني (انتقالي ودائم) (1964 – 1969م).
10- حكم وطني عسكري (حكم نميرى) (1969 – 1985م).
11- حكم وطني مدني (انتقالي ودائم) (1985 – 1989).
12- حكم وطني عسكري (حكومة الترابي البشير) (1989 - )

ويلاحظ هنا أن الأنظمة الاستعمارية ثلاث، والأنظمة الوطنية العسكرية ثلاث. أما الأنظمة الوطنية-المدنية فهي ستة. ومن مجموع الأنظمة الوطنية التسعة نجد أن ثلاث منها ثيوقراطية وتشمل السلطنة الزرقاء والمهدية ونظام الترابي-البشير. وستة منها يمكن وصفها بشبه العلمانية لكونها حاولت الفصل بين الدين والدولة. وهى فى الغالب علمانية انتهازية وليست منهجية بحكم أنها لم ترق معرفيا الى درجة ابتكار واستئثار القيم والمقاييس الوضعية ضمن دساتيرها، وتوقفت عند حد الإدارة دون الانارة، وتركت مسائل الشروح لللاهوت بحكم ومقتضى الدساتير التي نصت صراحة ان الاسلام هو الدين الرسمي للبلاد. ولعل بعض التفاصيل ضروري لتوضيح المقصود.

الممالك النوبية المسيحية:
قامت على أنقاض ممالك كوش و مروي، وهما من أقدم الممالك النوبية الإفريقية التي نشأت على ضفاف نهر النيل. ففي شمال السودان بحدوده الحالية تقريبا قامت دولة المقرة المسيحية وعاصمتها دنقلا العجوز، وهى لا تبعد كثيرا عن مدينة دنقلا الحالية. وفى الجنوب حتى تخوم أعالي النيل نشأت دولة علوة المسيحية وعاصمتها سوبا وهى قريبة من مدينة الخرطوم – العاصمة الحالية للسودان.
كانت أنظمة الحكم في المملكتين علمانية من حيث فصل الدين عن الدولة. فقد تفرغ الحكام للحكم والإدارة والاعتناء بالدفاع وبالعلاقات الخارجية. أما الشئون الدينية فقد كانت مناطة ببطاركة وقساوسة تندبهم الكنيسة القبطية بحسب طلب الملوك فى نوبيا. وتجدر بالملاحظة أن هاتين المملكتين تقدمتا على اوروبا من حيث فصل الدين عن الدولة فى الوقت الذى كانت فيه الكنيسة فى اوروبا هى السلطة الآمرة للملوك. ولعل نبذة مما ذكره أبو الفرج بن العبري في كتابه الموسوم "تاريخ الزمان" توضح حقيقة ان الملك النوبي كان بالوراثة هو رأس الحكم والادارة وليس البطاركة والكهنة، اذ يقول ابن العبري:
"وفى السنة 1147 لليونان (836م) كتب المعتصم الى ملك النوبة يطالبه بتأدية الأتاوى كالعادة القديمة و إلا فيوجه إليه الجيوش. وكان ملك النوبة حين وصل السفير قد توفى وخلفه فتى اسمه جورجى تنحدر أمه من السلالة الملكية وكان أبوه زكريا وصيا على المملكة، وعرف أن العرب أقوياء فقال للسفير: اننا عارفون بما يترتب علينا أن نؤديه كل سنة وهو 360 عبدا عملة. وقردة تتثقف وتتعلم لتحاكى البشر فى سيرها. وزارفات وعاج وجلود نمورة. غير أن ملوك العرب يجب عليهم كذلك أن يؤدوا لنا كذا وكذا من الحنطة والثياب الفاخرة، وأن نقيم جباة يجمعون لنا الجزية من أهالي النوبة المقيمين فى بلاد العرب. فلما ألغى العرب العادة ألغيناها نحن كذلك. ومع هذا كله فيما أننا مطلعون على مروءة ملككم ونبالة عنصره، فلسنا نكتفي بالتحدث معه بوساطة سفيره لكننا قررنا أن يتوجه ملكنا الجديد بذاته ليقوم بزيارته. فكتب السفير إلى المعتصم فى ذلك، فكتب له جواب بأن يتمهل ريثما يسافر الملك وأمر العمال فى مصر أن يخرجوا الى لقاءه الى سيوانى مدينة الحدود وإذا وصل الى الفسطاط يعدون له من النوق ما يكفى لحاشيته ويؤدون له كل يوم ثلاثين دينارا لنفقته.
بناء عليه غادر جورجى وطنه وطاف بلاد العرب ممتطيا ناقة مسرجة تظللها قبة مجللة بوشاح قرمزي يعلوها صليب ذهبى وبيده صولجان، وإلى يمينه ويساره يسير فتيان من أهالي مملكته، ويتدمه أسقف راكبا وبيده راية الصليب الخلاصي والفوارس والعبيد يحفون به ممتطين الخيل. ولما وصل جورجى الى بغداد طاف في شوارعها وحل في قصر ملكي أعد له.
وأن رجلا من النوبة كان مكلفا جباية الجزية من أبناء وطنه المقيمين فى بلاد العرب تحامل على جورجى الملك وافترى عليه مدعيا بأنه ليس ملكا لكنه دخيل مكار (148) بناء عليه تغاضى المعتصم عن مقابلته منذ شباط حتى آب ريثما كتب إلى مصر مستفسرا. ولما استيقن أن الجابى المذكور ادعى ما ادعى كذبا وافتراء وأن جورجى هو ملك النوبة حقيقة أرسل يدعوه اليه وأمر الجنود أن يخرجوا الى لقائه. وما أن وصل الى البلاط حتى رحب به المعتصم أجمل ترحيب وأجلسه أمامه واسني له العطاء ثم أعاده الى وطنه بمظاهر الإجلال.
وذكر ديونيسيوس التلمحري البطريرك يقول: كنت يومئذ في بغداد وقابلت المعتصم في المدينة الجديده التي شيدها ما بين دجلة والفرات ثم بعث الى سليمان طبيبه بان اذهب لازور جورجى الملك. فذهبت في فريق من الأساقفة والمؤمنين ورأيته فتى نجيبا ذكيا مناهزا العشرين من سنة. وأفادني بوساطة ترجمان عن صحة عقيدته وعن اشمئزازه مخالطة الأراتقة. ويوم الأحد احتفلت بالقداس وناولته القربان الأقدس وناولت حاشيته كذلك. وكان معهم آنية التقديس وأمتعة الأسرار. " (ص 29-31).
لقد كان هناك فصل للدين عن الدولة، ولكن لم يكن الفصل منهجيا –كما أسلفت- بحيث تقوم الدولة بالإدارة والاستنارة بالمعارف الوضعية. بل كانت الدولة تعوّل على الدين في اكتساب شرعية الحكم وليس مضمونه. وكان هذا هو المسار الذى اختاره ملوك "المقرة" فى العصور الوسطى.
انهارت مملكة المقرة المسيحية بفعل غزوات الأيوبيين بقيادة النوبيين المسلمين من نفس الأسرة المالكة في القرن الخامس عشر الميلادي، وتحولت الى اقطاعات متناحرة، أما المملكة الجنوبية فإنها عانت في نفس الزمان من غارات الفونج الذين هم عناصر سودانية تحالفت مع قبائل عربية وافدة لتهاجم سوبا – عاصمة المملكة – وتقضى عليها نهائيا.

قيام نظام الفونج أو السلطنة الزرقاء:
ذلك هو أول نظام حكم وطني وشمولي ولكنه غير نوبي ثقافيا. اذ أنه قام على أكتاف رجال يُعتقد أنهم متحدرون من قبائل نيلية مثل "الشلك". وقد اعتنقوا الإسلام عن طريق مصاهرة عناصر عربية نازحة، ودأبوا بعد ذلك لإقامة دولتهم التي امتد نفوذها من فازوغلى في الجنوب الى الشلال الثالث في الشمال وأصبحت عاصمتها سنار. وقد عاصرت سلطنة الفونج وتأثرت بممالك سودانية أقدم منها وهى ممالك دارفور في أواسط غرب السودان، وتقلى في الجنوب الشرقي منه. وشأنها شأن تلك الممالك فقد طغت على سلطنة الفونج وملوكها نزعة روحانية شديدة امتزج فيها الإسلام الرسمي بكثير من الطقوس والمفاهيم الأفريقية الوثنية. وفى هذه الناحية تختلف هذه الممالك عن الممالك النوبية المسيحية التي لم يعبأ حكامها كثيرا بنشر الديانة وترسيخ المعتقد المسيحي. أما ملوك الفونج ودارفور وتقلى فقد نشطوا الى حد كبير في الدعوة للإسلام من خلال استقطاب مشاهير دعاة الإسلام العرب وابتعاث أبنائهم لتلقى العلوم الدينية في الأزهر ومكة. وبذلك ازدهر التعليم الديني في السودان وأصبح هو النوع الوحيد المتاح لطلاب المعرفة في كل أرجاء البلاد باستثناء المناطق الجنوبية النائية. وعن أوضاع رجال الدين في الدولة يقول الدكتور شوقي الجمل في كتابه الموسوم "تاريخ سودان وادي النيل: الجزء الأول":
"يوجد الى جانب السلطان رجال الدين وأصحاب الطرق الصوفية، وقد كان السلاطين يقربونهم ويغدقون عليهم الهبات، وأدى هذا –كما ذكرنا سابقا- الى محاولة تقليد بعض الممالك الإسلامية والسير حسب أصول الشريعة الإسلامية بقدر ما تسمح به ظروف البلاد وتقاليد المجتمع –ولذا وجدنا هنا خليطا من أشياء اسلامية وأخرى زنجية" (الجمل 1969 ص 309-310).
وعلى هذا يجوز اعتبار نظام حكم الفونج والسلطنات المعاصرة لها في أوسط غربي السودان والجنوب الشرقي منه نظاما أو أنظمة ثيوقراطية بحته، بل الأولى والأطول بقاء في تاريخ السودان. ومن الملاحظ أن كثافة الجرعة الروحانية وطول أمدها قد أديا الى تحول جذري وخطير لمسار تطور السودان. اذ تحولت هنا مفاهيم التقدم الحضاري من المسار الأفقي المحدد كونيا بنسبية المكان والزمان الى المسار الرأسي المطلق والمنعتق من سنن الجاذبية وامكانات الطبيعة. فكان ما كان من شيوع كرامات الأولياء والصالحين ويغرب السودان عن دائرة المكان والإمكان والكيان والكون حتى اليوم.

الحكم التركي الأول أو "التركية السابقة":
بدأ عام 1820 بغزو اسماعيل باشا –الابن الثاني لمحمد على باشا- للسودان. ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 1885 ميلادية، كان السودان داخل دائرة اهتمامات محمد على باشا وأحفاده، وهى اهتمامات كانت منصبة في انشاء دولة واسعة وبمؤسسات عصرية تشابه نظيراتها في أوربا القرن التاسع عشر، حيث بلغت العلمانية المنهجية أوجها. ولأن هذه التوجهات كانت تتطلب بناء أنظمة.. اقتصاد وإدارة ودفاع قوية فان محمد على ومن جاء بعده حتى الخديوي اسماعيل كانوا أكثر ميلاً لاستغلال السودان لصالح قيام تلك الأنظمة في مصر أولا، فجدّوا في ذلك على حساب النهوض بثقافة السودان وعلومه. أو لعلهم رأوا أن ترك المسائل الثقافية وشأنها ضمان لكسب ولاء السودانيين. وحقيقة ما كان بوسع الأتراك احداث تغيرات جذرية وفورية في السودان نظراً لأن البلاد ظلت لمدة ثلاثة قرون طويلة ترزح تحت الجهل المطبق والتخلف الفكري المريع. ورغم هذا نلاحظ أن جهود محمد على باشا النهضوية لم تكن غائبة في السودان وبخاصة في مجال التعليم. وهنا أود الرجوع الى بعض ما ورد في مقال قيّم لباحث ومؤرخ تربوي جاد…
"وقد استمر التعليم الديني أو الأهلي هو التعليم الوحيد في السودان على عهد محمد على، ولو أنه سافرت الى مصر في ذلك العهد بعثة من ستة أشخاص من أبناء وجهاء تلك البلاد، فصدرت الأوامر بإلحاقهم بالمدرسة التجهيزية توطئة لدراسة علم الزراعة ومعاملتهم معاملة ممتازة نوعا عن التلاميذ الآخرين "نظرا لمجيئهم من بلاد بعيدة". ونحن لا نعرف شيئا عن هؤلاء الا ما قاله رفاعة الطهطاوي من أنهم نُقلوا الى مكتب الزراعة ثم الى مدرسة الألسن. وكان المقصد من ذلك أن يذوقوا طعم المعارف التمدنية لينشروها في بلادهم. كما شاهد رفاعة بعض أفراد هذه البعثة –بعد رجوعها الى السودان- يعّلمون كتبة في مديرية الخرطوم." (أحمد 1982)
ولقد كان منطقيا جدا ومعقولا الى أبعد الحدود أن يبدأ النظام التركي – المصري مسيرة التطوير بتصحيح المعتقد الديني وتنقيته من شوائب الجهل. وفى هذا يقول الدكتور أحمد:
"وفى عهد الخديوي اسماعيل (1863-1879) زادت عناية مصر بالتعليم الديني أو الأهلي في السودان وأقبل الفقهاء والشيوخ على تعمير المساجد والخلاوى للعبادة وتدريس القرآن والعلم، ووجه الخديوي إلى هذه الطائفة كل تشجيع ممكن. وكان من السهل على من تحدثه نفسه بأن ينال مساعدة سهلة باسم العلم والدين أن يكتب للحكمدار فيكتب هذا الى الوالي بدوره فيوافق على منحه المساعدة. وقد ترتب على ذلك أن اشتد الضغط وكثرت الالتماسات وتضخمت المساعدات، ودخلت زمرة الفقهاء والعلماء جماعة ادعت العلم والقيام على التعليم وهى منهما براء. وكان من نتيجة ذلك أن أخذ الحكمدار جعفر باشا مظهر (ديسمبر 1865- سبتمبر 1871) بسياسة ارسال الطلاب الى مصر للدراسة في الأزهر كما اقترح على الخديوي أن يقوم بالتفتيش على أصحاب الخلاوى والمساجد ويبحث عن مؤهلاتهم، وأن يوقف مرتبات وإعانات وأعطيات من لا علم لهم يريد من ذلك وضع سياسة واضحة وخطة حكيمة للإدارة الثقافية للبلاد. وقد وافقت القاهرة على الغاء الإعانات المالية وإعانات الحبوب على أن يحل محلها نوع آخر من الإعانات كان معروفا من قبل، وهو رفع أموال الحكومة عن الأراضي التي يزرعها الشيخ. وقد سار الحكمدارون بعد جعفر مظهر على طريقة." (أحمد، 1983).
ليس من شك في أن حرص الأتراك المصريين على تصحيح وتقنين المفاهيم والممارسات الدينية وإدخال المعارف والعلوم الحديثة جنبا الى جنب مع علوم الدين هو من مجمل الأسباب التى قادت فيما بعد الى انتكاس الثقافة السودانية لما كانت عليه قبل الحكم التركي. وكان ذلك مقدرا ولاسيما أنهم –أي الأتراك- كانوا يستعجلون التغيّر فى هذا المجال بالذات، وبخاصة فى عهد الخديوي عباس الذي أنشأ أول مدرسة رسمية فى الخرطوم عام 1853 ميلادية. وفى هذا الشأن يورد الدكتور أحمد ما يلي:
"وكان انشاء المدرسة من أجل أبناء سكان البلاد الأصليين من مشايخ وآهلين، وأولاد وأحفاد الأتراك الذين استوطنوا تلك الديار منذ سنين، لإنقاذهم جمعيا [من حضيض الجهل وإعدادهم لاكتساب المعارف، على أنم يقيد بها نحو مائتين وخمسين طفلا يخص كل منهم ستة قروش شهريا]. "(أحمد، 1983)
ويستطرد الباحث قائلا:
"وتبدو أهمية قيام مدرسة بالخرطوم على عهد عباس من أنه كانت مقرا لها أن تسهم فى حل أزمة الإدارة فى البلاد، هذه الازمة التي بدأ حلها حتى ذلك الوقت غير ممكن بغير الاستعانة بخريجي هذه المدرسة، ولقد كانت مصر تأمل أن تحقق المدرسة الغاية المرجوة من انشائها، ومن هنا كانت عظم العناية بها، ويتضح ذلك من أن هيئة التدريس بالمدرسة الابتدائية ذات المائه تلميذ فى مصر كانت تتكون من ناظر ووكيل ومدرسيّن، فى حين كانت مدرسة الخرطوم ذات المائتين والخمسين تلميذا، كما هو مقرر لها فى قرار انشائها – تتكون من ناظر وأحد عشر مدرسا وطبيبا، هذا علاوة على أن هيئة التدريس الأخيرة كانت تتكون من جماعة من أركان النهضة العلمية فى مصر – الأمر الذي يفسر أن المدرسة كان مرسوما لها أن تستمر الدراسة فيها لمن يتم الدراسة الابتدائية بنجاح لتكون مدرسة ابتدائية تجهيزية، كما كان مرسوما لها أن تعد تلاميذها للتعليم الزراعي والتعليم الصناعي، كما تحقق لهم الالتحاق بمدرسة الألسن فى مصر، حيث يتزودون فيها بالدراسات الواسعة في اللغات الأوربية الحديثة." (أحمد 1983).
كان بامكان السودان في ظل الحكم التركي أن ينهض فعلا ويتحلل من أغلال التخلف التي سجنت عقله لأربعة قرون، ولكن يبدو الداء كان قد استفحل وتغلغل ولم يجد الدواء… نفس الدواء الذي عمّر مصر وأنقذها من همجية المماليك. ويصح القول أن الروحانية المفرطة واللاعقلانية الشديدة هي التي أبطلت مفعول دواء البيطار الذي خلصت نواياه لمصر والسودان سواء بسواء.
نظام المهدية (حكومة التعايشي):
هو نظام وطني ثيوقراطى مثل الفونج، ووجه الاختلاف بين النظامين هو امعان المهدية في الصوفية والزهد في الدنيا وإعلانها الجهاد على كل من لم يوافق مفاهيمها حتى ولو كانوا مسلمين ضمن التيار الاسلامى العام. فعلى حين حرص الفونج على الاستعانة بأهل العلم الديني في التنوير الديني وفى الإدارة والقضاء ادعى المهديون أنهم هم الأعلم بالدين ممن سواهم وبأنهم وحدهم المؤهلون للدعوة والإصلاح والهداية. ويتضح هذا المنحى في أهم منشور يصدره المهدي، ويقول فيه:
"وبعد فمن عبد ربه محمد المهدي ابن السيد عبد الله الى كافة الأحباب فى الله. أيها الأحباب ان الأمر كله لله واليه المرجع والمآب وان النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلسني على كرسي المهدية قد أمرني بجهاد الترك وقال لي أن الترك كافرون، بل هم أشد الناس كفرا ونفاقا، لقوله تعالى "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم" وإنهم يسعون فى اطفاء نور الله تعالى "يريدون ليطفئوا نور الله" بإهانة السنة النبوية واستعطاف الإسلام. وقد أظهروا كتبا يريدون طفى نور الله تعالى ويسمونها كتب القانون مع شتم الإسلام وقهره……. وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم من أنكر مهديتك فقد كفر. وأن أرواح الترك اشتكت الى وقالوا يا الهنا ويا خالقنا ان الإمام المهدي قتلنا من غير انذار فقلت يا إلهي أنذرتهم وخالفوني وصالوا على، وسيد الوجود شاهد علينا. وقال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ذنبكم عليكم وأنكم خالفتم وصلتم فقتلتم……" (شقير، 1967، ص 943-944)
يقال أن فكرة الثورة على الإنجليز والأتراك والمصريين قد تولدت لدى بعض رجال الطرق الصوفية السودانيين المناوئين لحكم الخديوي. ففي وقت كان الخلاف بين بريطانيا والدولة العثمانية على أشده كان زعيم الطريقة السمانية يحاول ايجاد حكم بديل ووطني يساند الخليفة العثماني ضد الإنجليز. وتضامنا مع الخلافة العثمانية خاطب الشيخ الشريف نور الدايم زعيم الطريقة السمانية آنذاك أعوانه وبعض قادة الطرق الصوفية وتلاميذه ومن بينهم محمد أحمد المهدي الذي حضر الاجتماع وحثهم على ضرورة النهوض في وجه الكفرة الإنجليز والأتراك الخديويين وصولا الى اقامة حكم وطني اسلامى في اطار النظام العثماني. (أنظر حمد، 1980، ص78).
تحمس محمد أحمد للفكرة الى حد التطرف في الاعتقاد بان الجهاد هو جهاد ضد الإنجليز والأتراك سواء مصريين أو عثمانيين، وكل من لا يدين بمهديته هو شخصيا. وهكذا استفرد وبدأ ثورته ضد الكفر والعلمانية كما تصورهما الى أن توفى بعد سقوط الخرطوم بأشهر قليلة. وعنده تمت مبايعة قسرية للخليفة عبد الله التعايشي للاستيلاء على مقاليد الحكم ومواصلة الجهاد وفق أفكار محمد احمد المهدي. وبالطبع لم تكن فكرة التقدّم الحضاري والتنموي من ضمن تلك الأفكار. فمفردات المبايعة التي تضمنت برنامج الحكم جاءت كما يلي:
"بايعنا الله ورسوله ومهديه وبايعناك على توحيد الله والأ نشرك بالله أحدا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتى بهتان ولا نعصيك فى معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها والرضي بما يريد الله رغبة فى ما عند الله والدار الآخرة وأن لا نفر من الجهاد" (شقير، 1967، ص. 975).
ويتضح من صيغة المبايعة حرص الخليفة على التمسك ببرنامج المهدي المتضمن فى وعظه: "اذا طلبت بنت ملك للزواج وأعطوك اياها فما بقيت على زواجها بل تركتها وتزوجت بخادمتها ورجعت الى زواجها ثانيا، فهل تقبلك أم لا؟ كذلك الدنيا خادم الآخرة، من أخذ الخادمة فلا يطمع فى الست. فمن أراد الآخرة فليترك الدنيا لأنها كالحية لين مسها ويقتل سمها، وان الدنيا ليست دارنا لان دارنا الدار الآخرة، ونحن جئنا لخراب الدنيا وعمارة الآخرة." (عابدين، 1967، ص. 319)
قضي الخليفة عبد الله حوالي ثلاث عشرة سنة كاملة حاكما ديكتاتوريا مليئاً بالهواجس والوساوس والهلاوس والدسائس. ولم تحقق حكومته الوطنية الصرفة شيئا على الإطلاق غير سفك دماء المسلمين والبطش بالمعارضين الوطنيين واشانة سمعة أهل السودان فى الخارج بصورة لم يسبقها مثيل فى تاريخ السودان حتى ذلك الوقت. فقد كانت حكومة بدون حسنات على الإطلاق وخالية تماما من كل ما يمت للحضارة الإنسانية بصلة. ولكننا كسودانيين نحس بأن "زولنا ياهو زولنا" والاستعمار ياهو الاستعمار". ويصبح التقييم فى نهاية المطاف عاطفيا صاخبا فى غياب العقل المتزن وخمود الوعي المتّقد.

النظام الإنجليزي – التركي (المصري مجازا).
كان شبيها بالتركية السابقة من حيث كونه علمانياّ الى حد ما ومختلفا عنها لكونه أكثر لطفا بالسودانيين عموما سواء في الشمال أو الجنوب. ولعل هناك اختلافا أيضا في دوافع الحكم، اذ أن من المعروف أن الأتراك خلال النصف الثاني من حكمهم للبلاد كانوا يهدفون تحديث المجتمعات السودانية رغبة منهم في اقامة امبراطورية مستنيرة ينافسون بها الإمبراطورية العثمانية. أما الإنجليز فقد كان همهم الطاغي هو المصلحة الاقتصادية. ولبلوغها حرصوا على عدم المساس مباشرة بالنواحي الثقافية والاجتماعية. ولخوفهم الشديد على مصالحهم من مغبة اثاره مصادمات ثقافية مع المواطنين فقد علما على ترسيخ الطائفية وتقويتها بمعاضدة المهدية الجديدة وبعثها بعد هزيمتها الشرسة. فأصبح فى السودان طائفتان كبيرتان بعد أن كانت هناك طائفة واحدة كبيرة، هي طائفة الختمية التي ضخمتها التركية السابقة تسهيلا لحكمهم، وكسبها لمزيد من المسلمين في السودان. ورغم الإسهام الكبير للطائفتين في تجميد العقلية السودانية وإعاقة نموها الا أنهما لم تحظيا بدور سياسي مباشر الا في السنوات الأخيرة من حكم النظام الإنجليزي وأم تقويا الا بسبب التباري الساخن بين المصريين والإنجليز لاستقطابهما وخاصة في فترة تفرد الإنجليز بالحكم بعد عام 1924 ميلادية.
الحكم الإنجليزي: كما أسلفنا ام تكن في نية الإنجليز فى أية لحظة تطوير السودان تطويرا حقيقيا كما أنه لم تكن ضمن برامجهم العمل على تخلف السودان. فهم منذ أن استفردوا بالحكم بعد عام 1924، بل ومنذ ولاية كتشنر ربطوا تطوير السودان حضاريا بمصالحهم بحيث يكون التطور خادما للمصالح والتنوير عبدا للبيروقراطية. وقد نجحوا فى هذه السياسة لسببين اثنين لا ثالث لهما: أولهما استجابة الطائفية الدينية ايجابيا لتلك السياسة لمصالحها الدنيوية، وثانيهما رضوخ حكومة مصر الخديوية وانصياعها التام للإدارة الإنجليزية رغما عن ولاء المثقفين السودانيين لمصر وإصرارهم على بعث أياصر الأخوة مع الشعب المصري. وكان أوج ذلك الإصرار ثورة اللواء الأبيض في عام 1924 ميلادية.
خلال العقد الثالث من القرن العشرين برز تيار فكرى مناهض للاستعمار وللطائفية على حد سواء وتمثل هذا التيار في النوادي الأدبية في واد مدني وأبو روف وفى اصدارات الفجر والنهضة ومن ضمن ما جاء فيها رسالة للسيدين (على الميرغني وعبد الرحمن المهدي):
"للسيدين منا التجلية والاحترام ولكن مصلحة البلاد عندنا فوق مصلحة الأفراد، ولهذا نتقدم للسيدين بهذا الرجاء النهائي وننتظر منهما الجواب:
"لقد سلمت البلاد هذه الحزبية غير الموجهة وقد مضت ايام الزعامة الدينية التي ترتكن على الأتباع من الدهماء الذين يرجون ثواب الآخرة من غير الله. والشباب يريد منكما واحدة من ثلاث: "1" أن تعودا الى ماضيكما وتكونا رجال دين لا هم لكما الا العبادة وأن يأتي الى زيارتكما من يؤمن صلاحكما ويريد التقرب بكما الى الله وأن تهدياه سواء السبيل وبهذا تبتعدان عن ميدان الخدمة العامة فيستطيع الشباب ان يعمل لصالح بلاده وفق ما يريد دون ان يصطدم بكما… أو: "2" أن توحدا صفوفكما وتنبذا هذه الحزبية وتعملا فى صف واحد ويشد ازركما الشباب المثقف حتى تعملا لخير البلد… أو: "3" وان ابيتما الا الحزبية فنرجو منكما ان تخلعا عنكما مسوح الدين وأن تكونا زعيمي احزاب سياسية واجتماعية وعند ذلك نرجو منكما ان تصدر للناس برامجكما السياسية والاجتماعية لينضوي تحت لواء احد الحزبين من يؤمن فى برامجه وينضوي تحت الثاني من توافقه برامج الثاني. ونطلب منكما ان تخرجا للناس على أعمدة الصحف ومنابر الخطابة، وبهذا يستطيع ان يزاحمكما على الزعامة من يجد في نفسه الكفاءة لذلك. هذا ما نطلبه منكما فإذا اجبتما على سؤالنا كنتما عند حسن ظننا بكما وان ابيتما الا التمادي في هذه الحالة الحاضرة فليس امامنا الا أن نعمل ما نراه في صالح البلاد…" (حمد، 1980، ص. 294).
لم يكن لمثل هذه النداءات صدى خارج نطاق حلقة المثقفين الضيقة جدا. وذلك لأن الإنجليز كانوا قد جعلوا من الطائفية جدران عازلة تفصل بين المثقفين وعموم الشعب ولا ينقذ عبرها من شعارات أو أفكار غير تلك الموائمة لرغبات الاستعمار والطائفية. والادهى أن السيدين كان يسعيان على الدوام لتفتيت جماعة المثقفين ومحاولة استدراجهم إلى حظيرتيهما، وكان النجاح حليفهما في أغلب الأحيان إلى أن تم لهما تكوين أكبر حزبين سياسيين – في وقت انشغل فيه العالم بالحرب العالمية الثانية – وبذلك اجتمعت في ايديهما النفوذين، السياسي والديني، أي الدنيا والآخرة. وهذا انجاز خطير لم يحدث اطلاقا في أطار حضاري في تاريخ السودان ولكنه تم الآن فأصبح حاضر ومستقبل السودان أسيرين عنده لأجل غير مسمى.

الحكم الوطني الأول بعد الاستعمار الإنجليزي: -
يذكر المؤرخون عدة عوامل هامة ساعدت على تحقيق السودان لاستقلاله، ومن ضمن ما يذكر – بهذا الصدد – اعلان ميثاق الأطلنطي، ومذكرة مؤتمر الخريجين وثورة الغضب على الجمعية التشريعية، والاضرابات العمالية، والدبلوماسية المصرية، وظروف الحرب العالمية… الخ. وليس ثمة ذكر لأطماع الطائفية الدينية للاستفراد بحكم السودان وترسيخ كياناتها في وجه احتمالات بزوغ الحداثة واستشراء العلمنة التي أعلنت عن مولدها في الثلاثينات فأثارت ذعر الطائفية رغم نعومة أظفارها وهشاشة قوامها. فوأدها في مهدها كان هو الشعار غير المعلن للطائفية منذ ذاك الوقت، وقد أنجز إلى حد كبير.
وعامل آخر هام أيضاً ولكنه غير مذكور في أدبيات الاستقلال وهو حقيقة أن الطائفية كانت تعوّل دائما على المنح والهبات من الاستعمار وكان السيدين يتباريان فى استعطاف الإنجليز والمصريين للفوز بالعطايا. وكان واضحا لهذه الأطراف أن الاستقلال يعنى سقوط الخزانة كلها فى أيديهم، يتصرفون فيها بحسب أهوائهم. ولذلك جدوا فى طلب الاستقلال التام واستعجاله من دون مراعاة لتقنيات التسلم والتسليم، فأخذوا استقلالا خاليا من مضمون الاستقلال الحقيقي المؤسس على دستور دائم وشامل للقطر كله. وما يزال السودان يعانى حتى هذه اللحظة من عواقب تلك الهنة وتلك الخطيئة الأولى التي نتجت من أنانية الطائفية وقصر نظرها.
منذ السنوات الأولى من الحكم الوطني استقلت الطائفية بالبلاد والتهمت فلول العلمانيين الأصليين ولكنها تركت الحركة الشيوعية حيه لعلمها بأنها متطرفة فى علمانيتها وإلحادها ولذلك فهي لا تشكل خطورة على جموعها المؤمنه. لا فكرا ولا عددا. كذلك اطمأنت الطائفية لأشباه العلمانيين من الاتحاديين لانهما تحت جناح من أجنحتها فى أهم شعاراتها ومرئياتها، بل وأن زعيم الاتحاديين نفسه مشبع بروح الطائفية لدرجة أنه ليس بقادر على مناهضتها أيديولوجيا وبصورة مباشرة. وكما يقول حاج حمد "فقد كان أزهري نفسه أقل الناس ادراكا لدوره كزعيم لحركة المثقفين من جيل الاستقلال، فقد كان هو شخصيا أضعف الحلقات فى تكوين المثقف السوداني. "ويستطرد" بل أن منشأة كحفيد لزعيم طائفة دينية صغيرة واختلاطه المبكر بأجواء السلطة منذ أن ذهب مترجما مع وفد التهنئة إلى لندن… كل ذلك لم يجعل منه ذلك القائد الواعي المدرك بطبيعة الدور الذي أناطه به التاريخ على رأس حركة الخريجين والمثقفين…… لذلك لم يستطيع أزهري أن يدرك تماما أن الحرب ضده هى حرب (على ما يفترض أنه يمثله فى واقع السودان الجديد). نظر إلى الصراع بين حزبه وبين الآخرين فى حدود الصراع السياسي المجرد على (كراسي) السلطة، فتحول هو الآخر إلى (شيخ لطائفة المثقفين) يبارك هذا بالتعيين ويحرم ذاك بالطرد وقد شاعت عبارته المشهورة وقتها فى تصفية معارضيه "إلى من يهمه الأمر سلام…. قررنا فصل….. عن عضوية الحزب….." (حمد، 1980، ص289).
فى الوقت الذي كانت فيه الطائفية التقليدية قوية ومتماسكة - كل فى ذاتها- فان طائفية المثقفيين كانت تعانى من تصدعات ناجمة عن انتهازية روادها، فكان أن تدخلت مصر الملكية مباشرة لرأب الانشقاقات من خلال تقديم رشاوى مالية لكل متصارع إلى أن تمت المصالحة وأدت إلى انتصار الاتحاديين فى الانتخابات الأولى وأصبح الأزهري أول رئيس للوزراء فى السودان المستقيل من العلمنة من حينه.
تصارعت الانتهازية الطائفية فى ذلك مع طائفية النخبة الثقافية صراعا مريرا على كراسي الحكم خلال السنتين الأولى من الاستقلال. فقد بلغ عدد الوزارات التى تشكلت فى تلك الفترة أربعة وزارات، أى وزارة كل ستة أشهر وأقيمت تحالفات انتهازية بحته أظهرت تناقضاتها الأيدلوجية حقيقة خواء الطائفية التقليدية والمستحدثة والعلمانية المتطرفة المتمثلة فى الحزب الشيوعي من كل مبدأ فكرى مستقر إلا السلطة والتسلط. وكانت الوزارة الرابعة ائتلافية بين طائفة الأمة وطائفة الختمية اللتين شعرتا بأن الكتلة المناوئة لها تهدد مصالحها الدنيوية بعون من حكومة مصر العلمانية "وقد اعترف رئيس حزب الشعب بأن عدوه الطبيعي هو حزب الأمة وأنه رغم هذا ائتلف معه لتشكيل الوزارة مبررا ذلك بأنه كان من العسير عليهم الائتلاف مع الحزب الوطني الاتحادي، وأن علاقة حزبه مع حزب الأمة كانت أحسن لالتقاء السيدين" ويستطرد رئيس حزب الشعب " وهكذا انتقلنا وسرنا فى الحكومة ولكننا لم نشعر فى أي جلسة من جلسات الحكومة أننا نشتغل كفريق واحد، وكنا فى صراع مستمر وكان رئيس الوزراء عبد الله خليل قلق وتعب معنا باستمرار. "(حاج موسى1970 ص188).
صعُب الائتلاف والاتفاق حول توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي فاستنجد حزب الأمة رافع شعار الاستقلال والحرية بالمؤسسة العسكرية بعد سنتين فقط من الاستقلال، فذاق السودان لأول مرة طعم أكسير الموت الفكري – طائفية دينية ممزوجة بديكتاتورية عسكرية جاهلة – وهكذا جمدت عقلية السودان وخمدت عند هذه النقلة النوعية المهلكة.

الحكم العسكري الأول:
يذكر حاج موسى فى كتابه "التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم فى السودان " عبارة وردت على لسان الجنرال إبراهيم عبود فى خطاب ألقاه بمناسبة مرور عام على الانقلاب العسكري وفيها يقول " وقد وعدتكم فى خطابي الأول أن رائدنا كان تصحيح كل الأوضاع البالية التى كانت تسمم الحياة فى ذلك الحين وكنت أدرك تماما أن ذلك لن يتم بين شهر وشهر أو سنة وأخرى لأنه يقتضى اعادة بناء المجتمع على أسس سليمة راسخة وهذا يتطلب دراسة تامة وسيرا حكيما فى التنفيذ" (حاج موسى، 1970، ص209).
كان ذلك تصريحا جاهلا وانتهازيا لأبعد الحدود. "فالأوضاع البالية" لم تكن سوى الطائفية الدينية التى تحولت إلى طائفية سياسية أيضاً خلال الثمانية عشر سنة المنصرمة. ولم يخطر فى ذهن عاقل أن يكون لعكسر – اقرب ما يكونون للأمية السياسية والعلمية بشكل عام – أدنى إمكانية " لإعادة بناء المجتمع على أسس سليمة راسخة. " ولو سوئل عبود فى حينه عما يعنيه بتلك العبارة لما عرف الإجابة أو لنطق هراء. فالطائفية هى التى أهدته حكم البلاد لعلمها المسبق بقدراته العقلية التى لم تخرج عن نطاق الختمية. ولما أحس هو وأعوانه بعد سنوات قليلة بأنهم تحت كفالة الطائفية ووصايتها خاصة فيما يتصل بالمالية والشئون الخارجية حاولوا التمرد وفرض ارادتهم بوحي مثقفين نفعيين من أمثال أحمد خير الذى كان يعتبر قبل سنوات قليلة من قيام حكم عبود رائدا للعلمانية الحقيقية، فتغلبت انتهازية الطائفية على انتهازيتهم، فذهبوا وبقيت الطائفية الدينية – السياسية التى تحي وتميت أنظمة الحكم فى سودان ما بعد الحضارة النوبية… ويخطئ من يظن أن نهاية نظام عبود قد أتت على يد غير يد الطائفية التي جاءت به، وأن عملت خلف الكواليس.

الحكم المدني الثاني بعد الاستقلال: -
جاء واستقام فى ظل تآخى كل أنواع الانتهازيات فى السودان بما فى ذلك الانتهازية العلمانية (المتمثلة فى الحزب الشيوعي) وبرزت فى هذه الحقبة ثلاثة ظواهر أطاحت بآمال تطور السودان وأضرت كثيرا بمستقبله، الأولى تذكر بمقولة الفيلسوف نيتشه من أنه فى ظروف السلم يهاجم الجندي نفسه. فقد شهدت هذه الفترة انقسامات داخل الأحزاب التقليدية ألهتها عن الاهتمام بالمصلحة العامة كلية، مما أدى إلى بروز الظاهرة الثانية وهى صعود الانتهازية "الاسلاماوية" المتمثلة فى تنظيم الإخوان المسلمين. استفادت كلتـا الانتهازيتين مـن
تفكك الاحزاب التقليدية: الاخوان المسلمون من حزب الأمة والحزب الشيوعى فى الوطنى الاتحادى. فاصطادتا فى "المياة العكرة". وعلى حين أن انطلاقة الاخوان كانت حتى ذلك الوقت معاقة إلى حد ما بمناوءة الطائفية الدينية وبحركات إسلامية صغيرة مثل حركة الجمهوريين، فإن مسار الحزب الشيوعى أصبح ولأول مرة فى تاريخيه خاليا من العوائق. فأسفر وعاث ولم يتكشف الأ عن هرطقة سياسية وأفلاس علمانى وتخبط فكرى وتناقض ايديلوجى. وذلك مما أدى إلى بروز الظاهرة الثالثة وهى انهيار النظام الإدارى فى السودان وتفشى الفوضى السياسية والاقتصادية.

الحكم العسكرى الثانى:
بدأ كثورة علمانية صحيحة على غرار الناصرية، وشن حربا على الطائفية الدينية ولكنه فى النهاية لم يهزم ولم يُهزم لأنه راجع وتراجع بعد غدر الانتهازية العلمانية له. ولم يتراجع فحسب بل استدرجته الانتهازية "الاسلاماوية: إلى جانبها بدبلوماسية مركزة، ونصبته أميرا للمؤمنين دون منحه عضوية الجبهة الاسلامية. فارتاح غروره واستراح ضميره من عناء ما كابد من تأنيب وتعذيب منذ نحر خصومة. فأقام الولاية وأخذ البيعة وصام عن الاهتمام بالصالح العام. ونام طويلا فى كنف الاسلاماويين لا يصحو الا ليصدر قرارا جمهوريا أو يعين وزيرا ثم يعاود النوم تاركا الانتهازية الصرفة والانتهازية الاسلاماوية تنهب وتسلب وتعزز نفسها. وأخيراً عندما استفاق ورأى ما رأى من بوادر صدمة غادرة جديدة من قبل الاسلاماويين هذه المرة هاج وماج وقرر برعونة أن يعيد إليهم اللقب السامى الذى منحوه اياه وأعلن بنفسه أنه ومنذ ذلك التاريخ هو فعليا أمير المؤمنين بمشيئته هو. وعلى الفور أمر بتطبيق الشريعة الاسلامية وقتل الزنادقة. وفى غمرة هيجانه نسى أنه ما يزال يحقق طموحات الانتهازية الدينية، بل وبطريقة أسرع مما كانوا يتوقعون فباتوا ولسان حالهم يقول Too good to be true.
لاذ النميرى فى النهاية بالمتصوفة امعانا فى كرهه للأخوان المسلمين وإصرارا على أنه هو قائد المسلمين دون منافسة. فالتف حوله كل دجال ومشعوذ وطالب دنيا بستار دين. وأخيرا تجلت نفسه الفصامية فى أوضح تجلياتها، وخطابه الذى ألقاه على رهط من هؤلاء وقام أحد خصومه بتسجيله فى شريط كاسيت، هو خير دليل على أنه خرج أو أخرج من كون الممكن والعقل. وفيه يقول:"كانت قبل أيام وهى أننى مع بعض الأصدقاء الذين أحبهم فى الله، أحد السواح. كل يوم جمعة فى ………. أم درمان واصلى معهم هناك بعد زيارتهم. فبدا معى فى زيارة ود حسونة، فزرته، ودحسونه فعلا، وكانت زيارة مفاجئة بالنسبة له، زرته فقط وصليت معهم الجمعة، ثم أتينا قافلين إلى الخرطوم. وبعد عدة أسابيع أتى هذا الصديق من لفته وسياحته، وقابلنى فى محل ما، وقال لى يجب أن تزور الشيخ أحمد الطيب. فقلت له سمعا وطاعا، أى توجيهات أخرى لى للقيام بها؟ قال: لا.
كان مفروض نزوره الجمعة الفاتت، ولكن حصل وعد مع آخر وهو المهندس الذى قام ببناء مسجد النيلين. كنت قد وعدته إذا أكمل مسجد النيلين، لأذهب معه إلى قريته لنحتفل بزواجه، ومنعته من الزواج إلا بعد أن يكمل مسجد النيلين وفعلا أكمل مسجد النيلين وأتى وقال لى: على وعدك؟ فقلت له نعم على وعدى. أنا …. قال لى : ماشى أعمل زواج. قلت انشاء الله نمشى معاك، مشينا معاه الجمعة القبل الفات، وفعلا احتفلنا بالزواج هناك، وكان معنا فى الزواج الشيخ ود شاطور، وهو رجل ولى، يعمل فى ود مدنى. وكانت أول مرة أشهد حفل زواج بهذه الطريقة، وهى مدائح وذكر فقط. وعندما جئنا بعد العرس وقبل ثلاث أيام وأنا نايم فى العصرية، أشوف رؤية ….. أننى مكتوب لى أن أحضر إلى هذه القرية. ثم دخلت القبر …. القبة، فإذا بى أجد سيدى أحمد الطيب يقوم من القبر، ويقابلنى، ويقول بهذا اللفظ: أنت، أنت أتيت بالعدالة لهذا البلد فطير على هذا الاتجاه، فشعرت بنفسى أطير، وأخذت لى لفة لحد الكوداك، وجيت راجع، لفيت فيه لفة كبيرة وأكورك بملئ فمى: العدالة….. العدالة…. العدالة. ثم أتيت مرة أخرى له هنا، ونفس الشئ مرة أخرى، قال نفس الشئ ودفرنى على الجنوب. فأخذت شقة كده على الخرطوم، وبدأت أهتف بالعدالة فى كل مكان. جئت مرة أخرى، ونزلت على بعد أمتار، ودخلت القبه، وشعرت بأن سيدى أحمد الطيب لم يقابلنى هذه المرة. ودخلت لأرى من أين خرج. وجدت فى حفرة من القبر الأخير وأنا بنظر لهذه الحفرة، فإذا بالقبة تنزل كأنها ….. يعنى …. طين ضاربة مطر … بتماص كده ونازلة على. ورحت طلعت من بره على حسب ما قيل لى من بعض الأخوان فى الخارج، وشاهدت أنه هذه القبه بدأت تتهدم فى بعض الأماكن – وأنا فى النوم قررت بأنى لازم أنقذ الزيارة، وأن هذه القبه تحتاج إلى الصيانة وإلى التجديد، فأنا يجب أن أمشى إليها. وأنا فى طريقى إلى هنا بتكلم مع المعتمد، قلت ليه: أنا طولت مما جيت هنا وبفتكر القبه والجامع هنا بيحتاجو إلى صيانه. قال لى فعلا هو صانوهم ….، وقلت ليه أنا بفتكر شفت أنه هذه المحلات عايزه صيانة وبسرعة يجب أن نعطيها، لأن هؤلاء الناس بيعملوا معنا ….. بعد ميتين سنة من وفاتهم، بأيدوا معنا الدين وهم فى القبر. لم يكتفوا بأن عملوا الناس، بل يسندون الآن. فإذا كان مثل هؤلاء الأولياء الذين تراهم فى كل مكان يقفوا معك مؤيدين الإسلام، فماذا يجب نحن أن نعمل ونحن على قيد الحياة؟
افتكر نحن حقه نجتهد ليل نهار، مش عبادة بس، العمل وتحرك لتثبيت هذا الإسلام. ذكره الأمام فى الآية الأولى، فى الركعة الأولى، هذا هو القرآن والوعد الصحيح: أن للمتقين مفازا، حدائق وأعنابا. فاذن علينا بالتقوى، وعلينا بالعمل، لأن العمل هو نوع من التقويا، لكى نثبت هذا الإسلام. وأحب أن أوكد لكم بدون هلع وفزع أن الإسلام كلما يجد الصعوبات، كلما ينتشر وكلما يقوى وكلما ….، ولا تخافوا من الجوع ولا من العطش ولا من عدم وجود الأمطار، لأنها كلها امتحانات، وكلها تأييد للإسلام، ودفع ليه علشان يختبر المسلم بقيف وين فى هذه البلد.
سمعت من أحد العلماء السودانيين قال أن حكى له بعض الناس الذين يذهبون إلى المدينة دائما، أنهم أثناء وجودهم فى الحرم النبوى، أتى إليهم من … المدينة عدة سنين. رجل كبير، متفقه وعابد وقاعد فى المدينة قال ليهم: انتو من السودان؟ قالوا نعم، قال ليهم: ممكن تجو تتغدو معى؟ قالو ليه: ما فى مانع. فساقهم ومشى للبيت بتاعو. كان فيه مأدبة بتاعة غدا كبيرة. أكلوا الجماعة وحمدوا الله، وبعدينك سألهم وقال ليهم: ما تذكروا أنى أنا دعوتكم لهذه المأدبة؟ قالو ليه: لا….ما عارفين السبب، أهو …. أخوان فى الله. قال ليهم: لا، لأنه أنا من أصحاب حضرة، ودائما وأبدا يحضر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وغاب منا أربعة أيام، لم يأت الينا، ولما أتى وسألناه فقال كنت فى بلاد يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم حبا جما، وهى بلاد السودان بلادكم، فاتعموا بهذا الحب. ولذلك أنا أحببتكم فى الله وأحببتكم فى الرسول، ولقد وددت أن تأكلوا معى فى مأدبتى، ودعوتكم لهذا. هذه بعض الكرامات للأولياء، وكثير ما جاء فى القرآن أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأولياء الله، لحسن الحظ، مش واحد واللا اتنين. كلكم ممكن تبقوا أولياء الله إذا عملتم وإذا أخلصتم. وما علينا إلا أن نعمل والا أن نخلص. وأنا أحب أن أقول أنى أخذت الطريقة السمانية عن شيخى أبونا الشريف فى كركوج، وقد أخذ هو الطريقة عن أبيه الشيخ الخاتم، والشيخ الخاتم أخذ الطريقة عن محمد الامى القرشى، والشيخ محمد الأمين القرشى أخذها عن سيدى أحمد الطيب، ونحن كلنا يا أيها الأخوه فى هذا الاتجاه. ونحمد الله … أخوة فى ترابط والخوه فى زمالة. وكثير من الشيوخ وكثير من الطلبة والتلاميذ الذين أعطيت لهم الأذون لأن يأتوا ويعطوا الطريق لمن وثقوا فيهم. عندنا الآن شيوخ من السمانية اعتبرهم أوتاد لهذه البلد. وهم بحمد الله لا يريدون شيئاً فى هذه الدنيا. الشيخ الفاتح قريب الله، أمد الله فى عمره، وهو من الذين أحب دائما وأبدا أن أراه واقعد معه وأسمعه وهو يتعبد. لان ترى فى وجهه الصبوح …. ترى مشارف الجنه، ترى فيه الصلاح، ترى فيه التقوى. وأنا عندما أتحدث ذلك أعرف أن كثير من الناس بيقول: والله دا زول مجنون… باخى دا كده. فأنا أحب من الأخوة المسلمين فى السودان ان نرجع مرة أخرى إلى الطريق ….. الطريق السوى …… الطريق اللى بنوه الناس وقت ما عندهم فلوس.
الآن نسمع، وكلكم بتسمعوا: واله أحنا مع الفقر ده ايه الجايب لينا الإسلام والشريعة؟
فقر؟!! أفقر من مشى على الأرض من ناحية المادة هو الرسول صلى الله عليه وسلم. لا يحب المادة بل يكراهها. لكنه غنى بالأخلاق، أخلاقه قرآن طبعا وكل شئ، وبالرغم من ذلك نشر الشريعة فى كل العالم، نشرها فى كل العالم، بل بعد وفاته مباشرة قامت أكبر امبراطورية هزمت أكبر امبراطوريتين فى العالم، اللى هما الرومان والفرس. يبقى نحنا ما حقه نقول والله نحنا مفلسين، والله الجنية بتاعنا ضعيف، اللا ما فيش أكل فى السوق، واللا ما فى دخن، واللا…
نعمل ونحاول أن نأكل. ان كان ما جات أمطار، هذه قدرة الله، لأنه ربنا قال بشيل السحاب وبيوديه وينزله فى المكان اللى هو بيرضى عليه، أو يشوف الناس الفيه كويسين. يمكن واحد بيجيب البركة، ويمكن فى واحد بيطرد البركة. دى كلها حاجات لا نعملها نحن، يعلمها الله سبحانه وتعالى.
سيدنا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فى زمنه، وهو كان أعدل من مشى على الأرض بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان عنده أكبر مجاعة عرفت فى الإسلام، وسميت بعام الرمادة. ناس ماتت فيه. طلب الأكل من العمال بتاعينه من الخارج، من مصر ومن دمشق، عشان يجيه أكل فى أرض الحرمين. واذن ما فى شئ عجيب يعنى….. فى الضغط، فى المشاكل. بالعكس دا اختبار، وكل ما يأتيك شئ، أنت تحمد الله على كل حال، وتثق فيه أكثر. لكن ما عايزين الناس يخافوا، ما عايزين الناس يسمعوا بأدوات الاذاعة الكثيرة. الكذب الكثير، لأن الكذب نفسه حبله قصير ذى ما بنقول نحن فى السودان. وفى كثير من العلماء والفقهاء أمثال سيدى أحمد الطيب، وأمثال الشيخ فرح ود تكتوك، وأمثالهم كثيرين عندهم مقالات بنفس لهجتنا وبنفس لغتنا بتورى أنه …. الدنيا ديه فانيه. الناس حقه ما يحبو المال، لأن المال دا أسوأ شئ، بيجيب لك المشاكل. حب حاجة كلكم بتكرهوها. حب الموت، الموت حبوه. الناس بيكرهوا الموت وهو أحسن حاجة ليهم لأنه بيشيلك من الدنيا. الدنيا ما كلها فساد. الدنيا ده ما أنت لمن تقعد حتعمل فيها أخطاء كثيرة، لأنه الإنسان خطاء. فحب الموت، أكره المادة. كلما يجيبوا ليك، قول ما عايزه لكن بعض الأخوان، للأسف الشديد، وأنا بوجه اقتصاد هذا البلد إلى الاقتصاد الإسلامى اللى هو يعتمد أساسا على الذكاة، وفتحت بعض المؤسسات، فإذا بهم ويتحدثون عن الإسلام، لغفوا الفلوس، فعلا نشهد لا اله الا الله، ومحمد رسول الله، لأنهم غشاشين. فغدوا على هذه المؤسسات فأخذوا ما أخذوا ليكسبوا. يشتروا الشوال بتاع العيش بـ 30 جنية وبيباع بـ 120 و 110 جنية فى بعض الأماكن. أنا مخليهم لله سبحانه وتعالى هؤلاء الناس، تركناهم لله سبحانه وتعالى. ومنعنا منوعا يشتروا هذه المنتجات، الذرة والحبوب وكل هذه الأشياء لكن فلوس ما فيها بركة، ما فيه أى شئ.
أيها الأخوة، أطلت عليكم وأنتم جلوس فى هذا المكان، ولكن أحب أن أشكر كل الأخوة، وأحب أن أشكر كل الأقرباء الذين لهم صلة بهذا البيت الكريم، والذين مازالوا فى نفس الطريق، يعملون. وأشكرا كل الذين أخذوا الطريق وذهبوا فيه وعملوا لها. وأشكر كل الذين أتوا من أماكن بعيدة واستقبلونى، وكانت مفاجأة لى. لأنى عندما جئت، جئت سائق العربة، كنت لا أتوقع أن أجد خلاف الذين يصلون صلاة الجمعة العاديين، ناس القرية، ولكنها كانت بهجة وفرحة، وأنا باعتبرها عيد لى مكملة للعيد الذى أنا رأيت فى الرؤيا، واتمنى لكم ولجميع المسلمين النصر والقوة والرخاء والتوفيق فى كل شئ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فترة الحكم المدنى الثالث بعد الاستقلال:
يسميها البعض "فترة الديمقراطية الثالثة " بيد أنى وأخرين نفضل وصفها بفترة الفوضى الثالثة. وذلك لأنها خلت تماما من برامج ومعقولية سياسية. وجاءت محبطة لآمال كثيرين ممن ظنوا أن سنوات القهر الطويلة قد أكسبت المعارضة السودانية نضوجا سياسيا ودراية بحكم البلاد وترتيب الأولويات بشكل أفضل من كل ما سبق. وحقيقة كانت تجارب السودان القاسية خلال حكم النميرى وطول مدة المعاناة كافية لصقل المعارضين والحادبين على مستقبل السودان. ولكن لدهشة المراقبين عادت المعارضه كما وأهل الكهف ممحوة من ذاكرتها الدروس والعبر وكل شئ على علاقة موضوعية وعملية بمصلحة البلاد. بيد انها وبذكاء شديد استغلت شوق السوانى الطيب والأصيل إلى المغترب وتعاطفه التلقائى معه ضد المقيم، فبكت واشتكت وتسلقت بسرعة مذهلة بحبال النسيان وهرولت علوا فوق مدارج العاطفه إلى أن تربعت على هامة الشعب الحنين والعطوف والغفور. ومن ذلك الموقع الأعلى كان يفترض فى القيادة المستضافة على صيد الشعب الثمين والمضنى أن توجه المضيف إلى السبل الموضوعية والعملية لتوفير قوته المادية والفكرية بعيدا عن القدرية وتسلط الحظ. ولكن لم يحدث شئ من هذا، والذى حدث فعلا هو استعادة الطائفية الدينية لعروشها الدجلية مناكفتها لوليد لها، انتهازى دجلى مثلها، زهاء أربع سنوات حول أهلية حمل شعار "الله أكبر". ففاز الوليد وانتصر على الجميع قيادة وشعبا بقدرة قادر لم يعرف عنه شئ بعد غير أنه يتمنطق سلاح بشر، وأى بشر؟؟!!

فترة الحكم العسكرى الثالث:
لا يختلف النظام الحالى فى توجهاته عن نظام "التعايشة" فى شئ غير الأطر الزمانية. ويكفى ملخصا لبرامجه قول الزعيم الدينى حسن الترابى الفقرة الأولى من كتابه "الحركة الإسلامية فى السودان" (الترابى، 1991): "هذا الكتاب الذى بين يديك أيها الأخ القارئ كتاب فريد….. هو كتاب فى التاريخ الشامل لانبثاق حركة حضارية إسلامية فى السودان الحبيب منذ نشأتها فى أوائل الخمسينات حتى عامنا هذا …. وهو تأريخ شامل لأنه يتضمن نمو الوسائل والمناهج والغايات من منظرية بسيطه فى أوائل الخمسينات إلى نظام متراكب دقيق…. من حركة صغيرة فى مجتمع يموج بالأفكار العلمانسة والتقليدية إلى حركة دولة … أو قل حركة تتهيأ لبناء دولة عصرية على أسس إسلامية خالصة. (الترابى ص ه)
ويقول فى الفقرة ما قبل الأخيرة: " والحق أن الحذر جله من المنافسه المحلية حيث تتجه كل القوى المنتسبة إلى الدين تاريخا أو المغتربة عنه مذهبا إلى أن تجمع لها لتصدها عن التمكن، ومن التمكن، ومن الكيد الدولى الوارد من جهات موالية باسمها للدين او معادية له بملتها، يمد القوى الداخلية بالمناوئة لحركة الإسلام فى كل حال تستدعى، بل يباشر الحركة بالمناوأة المعنوية والمادية، لكن قوى المنافسة اليسارية اللبرالية تبدو منحسرة بفضل الله، وقوة الكيانات التقليدية تبدو متأخرة. وقد لا يضر الحركة أن يجمع لها الناس وتبدوا هى البديل للركام الوروث والطعام المستورد، وتحاول الحركة أن تعد للكيد الخارجى استنصارا بالله، ثم بالمؤمنين فى السودان تتفجر الطاقات من مخبوء الإيمان الباقى فى فطرتهم وتتعبأ قوات جماهيرهم وصفهم المرصوص وتتصوب جهودهم بمنهج حكيم ونظام فعال، ثم بتدابير من السياسة الخارجية يرجى ان تخذل عدوا أو تجند وليا أو تستجمع فى علاقات العالم قوة جامعة لبأس المؤمنين أو دافعة عنهم كيد الكافرين. أما تحديات الحياة فى السودان فقد استعدت لها الحركة إذ نزلت معانى الدين وأحكامه قوة وهديا فى عين معضلات الواقع فى سبيل العز والاستقلال الوطنى والآمن والدفاع العام، والوحدة القطرية والقومية، والنماء والعدل المادى، ونشر الملة والثقافة الصلية، والبلد على أزماته ذو امكانات أسبغها الله وسخرها لانسانه المؤمن إذا صدقت لديه دوافع الإيمان وصحت هوادى العلم واستقرت أسباب النظام وواتاه توفيق الله من حيث يحتسب او لا يحتسب. (الترابى ص 296،297).
وكما هو معلوم الان داخل السودان وخارجه لم تحقق الحركة الاسلامية بحزبيها (المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي،والمؤتمر الوطني بقيادة حسن البشير) اي من اهدافها الدجلية لأنها وبباسطة كانت وما تزال "دجلية" بامتياز،بل خطرة للغاية على مستقبل ما تبقى من السودان.ولعل اخطر مواقف الزعيمين وانصارهما هو انكارهما بشراسة دموية ان توجهاتهما السياسية خاطئة مليون فى المئة فيما يخص مصالح السودان الحضارية الحقيقية. وهى مصالح من المفترض عقلانياً ان تكون بعيدة جداً عن الأوهام والهلوسات اللاهوتية الكاذبة ذات الدوافع النفعية الشخصية قصيرة المدى.ففى عهدي الزعيمين الاسلاماويين خسرنا اكثر من ثلث ارض السودان وشعبها،وربما اكثر من ثلثي ذكاء السودانيين وبخاصة ممن هم داخل السودان.وفى عهديهما صرنا نرى خارطة السودان وكأنها "خرقة قماش" مهترئة تلعب بها الرياح والاهوية الاقليمية والدولية، بعد ان كانت فى شكل قلب جميل بامكانية محتملة لضخ الحياة النابضة فى كل جسم افريقيا،ماضيه،وحاضره،ومستقبله.
ما يؤلمني جداً معرفتي بل ويقيني رغم رفضي لليقين المطلق فى كل مجالات المعرفة الانسانية ان لا "علمانية منهجية" راسخة فى السودان.والسبب الرئيس –فى نظري- يكمن فى تواطؤ النخبة السودانية المثقفة الموجودة داخل السودان مع انظمة الحكم.لافراد هذه النخبة رغبات ملحة للتميّز اجتماعياً فى كل النواحي الحياتية.ومن اجل تحقيق اهدافها تتجه نحو احد خيارين تجاه السلطة الحاكمة:اما الانصياع لقيادة السلطة مهما كانت توجهاتها او الهروب الى الخارج.والمؤسف فى كلا الحالين ان السوداني يظل-وان كان خارج بلده- مؤمناً بالسحر والجن وكرامات الاولياء بما فى ذلك معرفة الغيبيات والمشي على المياه، واحلال الخير او الضرر على الشخص.
السودان بعيد لقرون عن منهج العلمانية واتمنى ان لا ينقرض السودان كأمل وفكر قبل ان يرحل بعض العالم الى فضاءآت اخرى لسنا منها فى شيىء. وللموضوع بقية.

المراجع

  • ألعبرى، أبو الفرج جمال الدين. تاريخ الزمان. دار المشرق بيروت، 1986.
  • أحمد، أحمد أحمد السيد. بداية التعليم العصرى فى السودان. دراسات. عمادة شئون المكتبات جامعة الملك سعود. الرياض، 1983.
  • الجمل، شوقى. تاريخ سودان وادى النيل، الجزء الأول. مكتبة الأنجلو. القاهرة، 1969.
  • الترابى، حسن. الحركة الإسلامية فى السودان. القارئ العربى. القاهرة، 1991.
  • حاج حمد، محمد ابو القاسم. السودان: المأزق التاريخى وآفاق المستقبل. دار الكلمة للنشر. بيروت، 1980.
  • حاج موسى، إبراهيم محمد. التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم فى السودان. دار الجيل. بيروت، 1970.
  • عابدين، عبد المجيد. تاريخ الثقافة العربية فى السودان. دار الثقافة. بيروت 1967.
  • شقير، نعوم. جغرافية وتاريخ السودان. دار الثقافة. بيروت، 1967.
    Nisbet, Robert. History of the Idea of Progress. Basic Books: New York, 1980