لماذا نتجاهل المبدعين في حياتهم، ونذرف الدمع السخين عند مماتهم؟

صلاح شعيب - 10-07-2021
لماذا نتجاهل المبدعين في حياتهم، ونذرف الدمع السخين عند مماتهم؟ | صلاح شعيب

المبدعون يحتاجون إلى الدعم المعنوي باستمرار سواء كانوا أثناء مراكمتهم الأعمال، أو بعد تقاعدهم. لو أن حفزنا جمعهم - وهم في قمة العطاء - لواصلوا دون توقف. وإذا حافظنا على تذكيرهم دائما بدورهم في تجديد حياتنا لمنحناهم عمراً جديداً، وغادرونا راضين عن وفاء شعبهم لهم.
الحقيقة أن كثيراً من المبدعين رحلوا، وفي حلقهم غصة. بعضهم لم يجد عناية الدولة، أو الجمهور حين مرضوا، أو ضاقت بهم سبل العيش. فمعظم مبدعينا لا يملكون معاشا من الدولة. وما أدراك بمعاش اليوم نفسه!. بل إن بعض المبدعين كانوا مهنيين، ولما تعارضت أمامهم الأمور استقالوا، وتفرغوا للفن. الجيل الذي نشأ في الستينات، ونضج في السبعينات، الآن يعاني الأمرين. فهم قد عاشوا حياة طبيعية، ولكنهم لم يتصوروا أن الظروف ستتغير لدرجة أن مستشفياتنا لا تمنح الشاش مجانا. وكوني لصيقا بهذا المجال لأكثر من ثلاث عقود عايشت - وما أزال - ظروفا صعبة واجهت الرواد المنتجين في حقل الإبداع الفني المتعلق بالشعر، والغناء، والتلحين، والمسرح، والدراما، والشعر، والنقد.
معظم الثناء الذي يأتي من المبدعين هو من جمهورهم، وليس من الوزارة المعنية، أو من زملائهم في المجال. بل إن حقول الفن يكثر فيها الحسد. ولا تجد مبدعا يصرح في الصحف معجبا، ومعترفا، بفضل زميل له إلا نادرا. ولكن لاحظت في نموذج نعي القدال، والحلو، أن عددا من زملائهما المجايلين في الحقل أبنوهما بكلمات تقدير، وشكر، ما أنزل الله بها من سلطان. ولكن هؤلاء مطلقا ما عبروا يوما عن هذا الثناء في حياة الراحلين.
وربما هم يؤمنون هنا بمثلنا القائل: "الله لا جاب يوم شكرك". والحقيقة أن الجمهور تجاوز هذا المثل الخاطئ. فكثيرا ما شاهدنا التقدير الذي يكنه للمبدعين. ولهذا يستمد المبدع طاقته من التصفيق أكثر من ثناء زملائه الذي لا يلحقه في قبره.
-٢-
وما دام لكل قاعدة استثناء فإن عدداً من المبدعين وجدوا دعما من الجيل الذي يسبقهم سواء بالتلحين لهم، أو تقديمهم في النشر الثقافي. وتعاقب الأجيال سنة. لكن هناك مبدعين لا ينوون الاعتراف بهذا التعاقب. ذلك برغم أنهم جاءوا في أعقاب جيل تعلموا منه، ولولاه لما قامت لهم قائمة. هؤلاء يرون أن زمن الإبداع توقف عندهم. ولا يعترفون أن هناك أصواتا جديدة في الأدب، والغناء، والمسرح، والنقد، تملك مواهب التجديد. وإذا كانت هذه غيرة جيل تجاه آخر مفهومة بطبيعة البشر في حب الاستحواذ. فداخل كل جيل لديه غيرة أفراده تجاه آخرين من الجنس. وفي الماضي كانت هذه الغيرة محفزا للإبداع. ولكن في هذا الزمن كثرت الغيرة الإبداعية، وقل تيار التجديد النوعي، وارتبط بقلة قليلة لا توازي هذا الكم الهائل الذي يطرح نفسه أنه من زمرة المبدعين. فإذا أخذنا مجال الغناء فحدث ولا حرج. نعم هناك اجتهاد، وتجريب، ولكن هل بالضرورة ينجحا في القبول؟.
وللأسف ألاحظ أنه انوجد مبدع وسائط التواصل الاجتماعية الذي هو محصور بثناء دائرة أصدقائه، أو حزبه، أو منطقته، أو قبيلته. ولكنه لو قدم للجمهور دعوة لتقديم أعماله في المسرح القومي لحصد دائرة معجبين لا تتجاوز الخمسين شخصا. الاحتمال الوحيد هو أنه ربما تحول المسرح القومي في الأثير، وانتهى لكونه مقياس جماهيرية فقط لمحمد الأمين، وعقد الجلاد.
-٣-
حتى هذه اللحظة هناك عدد من المبدعين المنسيين في ذاكرة الناس سواء من يستخدمون الصوت، أو القلم، أو الفرشاة. انزووا بأمراضهم، وظروفهم المادية الحرجة، لأن الدولة لا تعتني بهم. فعالم عباس قدم استقالته من إدارة المجلس القومي للآداب والفنون. وعبد القادر الكتيابي الذي ضحى بعودته وجد نفسه يجلس في كرسي خشبي لتفعيل صندوق رعاية المبدعين بلا ميزانية. أما الوزارة فهي معنية بالإعلام الذي قصرت فيه، وأهملت الاهتمام بالثقافة، والسياحة، ودور مسؤولي الوزارة ليس توفير الدعم للمبدعين، وحتى الآن هو محصور في تدبيج نعي منمق لهم، ولا يحصرون المحتاجين منهم قبل وفاتهم ليتعالجوا في الأردن مثلاً. باب الوزارة الآن فقط مفتوح للمبدعين السائلين إلحافا، ولكنها لا تستبق هذا المذلة بالوصول إليهم إكراماً. وقد كنا شاهدنا حملات التضامن مع القدال، والحلو، لجمع مبالغ العلاج في حين أن الدولة تعجز عن أن تتعاقد مع مستشفيات في مصر لعلاج مطلوب، وذلك لحفظ ماء وجه مبدعينا من السؤال المُلح.
المبدع المتميز شخص نوعي وربما يمر عقد، أو عقدين، دون ظهوره بمستوى يؤكد أنه أضاف شيئا ذا بال. ينبغي ألا نغمط حق المبدعين في استماع شهاداتنا حول عطائهم وهم أحياء، عوضا من أن نذرف الدمع السخين لوفاتهم بعد نسيان أنهم أحياء بيننا. وعندئذ يتألمون من المرض، ويشكون لطوب الأرض مشقة المعاش..بينما يهرول بعضنا ليزين نعي المبدع بذكرياته المتعلقة بقربه الاجتماعي من الراحلين. وهؤلاء في كل هذا يحاولون لفت الأنظار لأشخاصهم أكثر من محاولة تدبيج نعي مجرد، ومستحق لشخوص استتثائيين.
كنا نتصور بعد الثورة أن نعيد الاعتبار لمبدعينا الذين تعرضوا للقمع في الثلاثين عاما الماضية، وناضلوا ضد الإنقاذ، وأن يكون هناك مهرجان سنوي لتكريمهم عبر شهادات الدولة التقديرية، وأن تكون هناك شخصية العام في الشعر، والرواية، والتشكيل، والغناء، والنقد، والتلحين، والدراما لتطوير هذه المجالات بروح جديدة. ولكن قدر الله، ما شاء فعل.