هذه محطَّة تشارنغ كروس : ثمَّةَ رهطٌ خفيضُ الصَّوت، ثمَّ ضوضاءُ عالِقةً منذُ أن حَمِيَ وطيسُ الحربِ في حقولِ فلاندرز

محمد خلف - 03-08-2021

هذه محطَّة تشارنغ كروس: ثمَّةَ رهطٌ خفيضُ الصَّوت، ثمَّ ضوضاءُ عالِقةً منذُ أن حَمِيَ وطيسُ الحربِ في حقولِ فلاندرز

في وسطِ لندن على وجهِ التَّحديد، تُوجدُ محطَّتانِ عتيقتانِ باسمِ تشارنغ كروس: الأولى، لمترو الأنفاق (أو قطارات تحت الأرض)، وتقعُ مباشرةً تحت ميدان الطَّرف الأغر، ذي الأُسودِ البرونزيَّة، كما يتوسَّطُهُ تمثالُ نيلسونَ الشَّاهق، الذي تحفُّ به فَسقيَّاتٌ (أي نوافيرُ) أربع؛ والثَّانية، لقطاراتِ السِّكك الحديديَّة، التي تتَّجه صوب البحر شرقاً وجنوباً، في رحلاتها اليوميَّة إلى ومِنَ المواني التي تربِطُ الجزيرةَ البريطانيَّة بأوروبا وبقيَّةِ أنحاءِ العالم. وهذه هي التي تعنينا في هذه المشاركة، التي نُريدُ لها أن تصلُحَ مدخلاً ملائماً للتَّعرُّفِ مجدَّداً على الموضوعاتِ الرَّئيسيَّة لرواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، ومن ثمَّ الأفكارِ الأساسيَّة لمتنِ الرَّجلِ الطَّيِّب، الرِّوائيِّ السُّودانيِّ الأشهر: الطَّيِّب صالح.
وعندما نقول وسطَ لندن على وجهِ التَّحديد، فإنَّنا نعني وسطَها تماماً، أي نقطة الارتكاز التي كانت تُقاسُ بناءً عليها المسافاتُ داخل البندرِ الذي تحكَّمَ يوماً بجيوشِه وتجارتِه الرَّائجة في مصائرِ غالبيَّةِ البشرِ في العالم. فأمامَ المحطَّة، يُوجدُ صَرحٌ تَذكارِيٌّ لصليبِ الملكة إيلينا (إليانور)، الذي ما زال يُستخدَمُ إلى اليوم مُرتكَزاً لقياسِ المسافاتِ من لندن، علاوةً على قيمتِه التَّذكاريَّة والجماليَّة؛ وخلفها، يُوجدُ نهرُ التِّيمز، الذي قال عنه صاحبُ "قلب الظَّلام" إنَّ "البحرَ يمتدُّ أمامَه مثل ابتداءٍ لممرٍّ مائيٍّ لا نهايةَ له". وإذا كان جوزيف كونراد، مؤلِّفُ هذه الرِّواية الشَّهيرة قد أطلقَ بطلَه، مارلو، في طِلابِ بطلِهِ الآخر، كورتز، مُبحِراً من "أكبرِ، وأعظمِ مدينةٍ في العالم" إلى أدغالِ أفريقيا وأحراشِها، التي يعيثُ الأخيرُ في دُكنَةِ غاباتِها فساداً، فإنَّ صاحِبَ "المَوسِمِ" قد وضعَ بطلَه، الرَّاوي، في طريقِ بطلِه الآخر، مصطفى سعيد، لِيكشفَ عبر أوراقٍ وأحاديثَ مُقتضبةٍ في قريةٍ وادعة عند مُنحنى النِّيلِ رحلةَ الأخيرِ إلى بندرٍ مُضيء، ظلَّ رَدَحاً يعيثُ فيه فساداً وفُسقاً نَتنَاً، على رائحةِ النَّدِّ، والصَّندلِ المحروقِ، وأضواءِ الشُّموع.
مثلما أنَّ كورتز كان ذا جنسيَّةٍ مزدوجة (إنجليزيَّة فرنسيَّة)، حتَّى تُصبِحَ إدانتُه أخلاقيَّاً رمزاً لإدانةِ أكبرِ قوَّتين استعماريَّتين، فإنَّ مصطفى سعيد كان، حسب وصفِه لنفسِه أمام شيلا غرينوود، ذا وجهٍ "عربيٍّ كصحراءِ الرَّبعِ الخالي" ورأسٍ "أفريقيٍّ يمورُ بطفولةٍ شرِّيرة"، حتَّى تكونَ أفعالُه مُطابِقةً لما تنسِجُه المُخيِّلةُ الأوروبيَّةُ الشَّعبيَّة أو تُعيدُ إنتاجَه بكيفيَّةٍ مُلتبِسة مؤسَّساتُه الاستشراقيَّة؛ وهذا منحًى سنعودُ إليه في شيءٍ منَ التَّفصيل في مشاركاتٍ لاحقة. أمَّا الآن، فإنَّنا على وشكِ الدُّخول إلى الرَّدهة الرَّئيسيَّة للمحطَّة. كلُّ شيءٍ يسيرُ كالمعتاد، في صورةٍ تقتربُ من وصفِ مصطفى سعيد لإنجلترا بأنَّ "هذا عالمٌ مُنظَّم": المسافرون يسيرون مُسرعين، وأحياناً يركضون، إلى ماكيناتِ التَّذاكر أو مستودعاتِ الخدمات أو غرفةِ الانتظار، من غير ضجيجٍ أو جلبةٍ تُذكر، و"لا ضوضاءَ"؛ وعلى جانبَيِّ الرَّدهة، يقفُ على أُهبةِ الاستعدادِ جنديَّانِ من شرطة الطَّوارئ، مُدجَّجانِ بأحدثِ أسلحةِ مكافحةِ الإرهاب. وكانت ذاتُ الرَّدهة، وذاتُ غرفة الانتظار، قبل مئةِ عامٍ تقريباً، تكتظُّ دائماً بنسوةٍ يتَّشحنَ بالسَّواد، في انتظارِ العائدين من حقولٍ فلاندرز.
أصبحت حقولُ فلاندرز (وتتوزَّعُ الآنَ بين بلجيكا وفرنسا وهولندا) تُشيرُ في الاستخدامِ الاصطلاحيِّ إلى ساحاتِ المعاركِ إبَّانِ الحربِ العالميَّةِ الأولى. وقد كتب عنها الشَّاعرُ الكنديُّ جون ماكريه قصيدةً بعنوان: "في حقولِ فلاندرز"؛ يقولُ في مطلعِها:
"في حقولِ فلاندرز، يُزهِرُ الخشخاشُ
بين الصُّلبانِ المرصوفةِ صفَّاً إثرَ آخرَ،
فذاكَ تحديدٌ لمكانِنا؛ وفي السَّماءِ،
ما زالتِ القُبَّراتُ، وهي تشدو دون خَشيةٍ، تطيرُ،
وبالكادِ لا تُسمَعُ، وسَطَ أصواتِ البنادقِ المُطلقةِ من تحتِها".
إلَّا أنَّ قصيدة "أنتويرب"، للشَّاعرِ والرِّوائيِّ الإنجليزي، فورد مادوكس هيفر، هي أفضلُ ما كُتِبَ من قصائدَ، بحسبِ تي إس إليوت، عن الحربِ العالميَّةِ الأولى؛ وهي ذاتُ القصيدة التي تغنَّت بمقطعِها السَّادسِ فرقةُ "ذا ريث" في عام 2006؛ وهو ذاتُ المقطعِ الذي اقتطعَ منه مصطفى سعيد أبياتاً قرأها، وهو تحتَ تأثيرِ الشُّربِ، على مسمَعٍ منَ الرَّاوي، الذي قال على إثرِ سَماعِه للأبيات: "أقولُ لكم، لو أنَّ عِفرِيتاً انشقَّت عنه الأرضُ فجأةً، ووقفَ أمامي، عيناهُ تقدحانِ اللَّهب، لما ذُعِرتُ أكثر ممَّا ذُعِرت".
ما نُريدُ التَّأكيدَ عليه من كلِّ ذلك هو أنَّ الطَّيِّب صالح قد صوَّر لنا بهذه الأبياتِ القلائل - خلافاً للدَّهشةِ التَّشويقيَّةِ التي اعترتِ الرَّاوي، وانتقلت منه إلينا معشرَ القرَّاء - تحديداً دقيقاً، إلَّا أنَّه غيرُ مألوفٍ، للزَّمنِ الرِّوائيِّ في "موسم الهجرة"؛ وهو فترة ما بين الحربين، التي حدَّدت معاهدةُ فرساي قسماتِها، والتي لا تزالُ زهرةُ الخشخاشِ تُمثِّل للرَّأيِّ العامِ الأوروبِّيِّ رمزاً للسِّلمِ بوضعِ الحربِ العالميَّةِ الأولى أوزارَها؛ وهي فترةُ الثَّلاثةِ عقودٍ منَ الزَّمان التي يتحدَّثُ عنها مصطفى سعيد بقولِه: "ثلاثون عاماً. كان شجرُ الصَّفصافِ يبيَضُّ ويخضَرُّ ويصفَرُّ في الحدائق، وطيرُ الوقواقِ يُغنِّي للرَّبيعِ كلَّ عام. ثلاثون عاماً وقاعة ألبرت تغصُّ كلَّ ليلةٍ بعشَّاقِ بيتهوفنَ وباخ، والمطابعُ تُخرِجُ آلافَ الكتبِ في الفنِّ والفكر". وهي الفترةُ التي يقولُ عنها الرَّاوي: "كانت لندنُ خارِجةً منَ الحربِ ومن وطأةِ العهدِ الفيكتوري". كما يقولُ مصطفى سعيد بشأنِها: "رأيتُ الجنودَ يعودون من حربِ الخنادقِ والقُمَّلِ والوباء". وهي الأوضاعُ التي أشار إليها المقطعُ السَّادس من قصيدة "أنتويرب":

"هؤلاءِ نساءُ فلاندرز
…………..
ينتظرنَ الضَّائعين، الذينَ يرقدونَ موتى في الخندقِ والحاجزِ والطِّينِ في ظلامِ اللَّيل.
هذه محطَّةُ تشارينغ كروس. السَّاعةُ جاوزت الواحدة.
ثمَّةُ ضوءٌ ضئيل.
ثمَّةُ ألمٌ عظيم"*.

سنوضِّح في حلقةٍ قادمة كيف تُساهمُ هذه الأبياتُ القليلة في تحديدِ أدوارِ الشَّخصيَّاتِ الثَّلاث الرَّئيسيَّة (مصطفى سعيد، والرَّاوي، والكاتب)، التي تُسهِمُ بدورِها في توضيحِ المحاورِ الثَّلاثةِ للمتن؛ وهي، البندرُ الكولونيالي، والوطنُ الأم، والعمقُ الحضاريُّ الشَّامل.


  • احتفظنا بترجمة الكاتب للأبيات، وأعطينا لأنفسِنا حقَّ تشكيلِها. م.خ.

محمَّد خلف
الأحد 15 يناير 2017