انهم يبيعون لنا نفس الترام

وجدي كامل - 10-07-2021

تخون السياسة السودان منذ استفلاله بعدم صياغة الدستور الدائم، وبالتالي عدم صناعة السياسات الحاكمة للتطور المتوازن. وتفعل السياسة ذلك بحكم التفكير المنحاز والثقافة السياسية القصيرة النظر، البسيطة الخيال.
فالرؤيا للتغيير ليست غائبة كما يقول البعض، ولكنها مريضة. انها مريضة بالتفكير السياسي النمطي والثقافة السياسية غير الواقعية. فالواقعية وباعتبارها ازمة تلازم العقل السوداني العام منذ قرون فهى تعطي اوضح حلقاتها في ميدان الافكار السياسية وترمز لها بذات الثقافة السياسية.
الخطا ليس واحدا فهنالك اخطاء عديدة وقعت، وتقع، ولكن فالمحفز الحقيقي لكل ذلك يبقى في عدم صناعة السياسات التى تغذي السير الواضح لعمليات التطور السياسي وخاصة في مراحل الانتقال ( انتقال ما بعد الاستقلال 56-58 واكتوبر1964 -1969والانتفاضة 1985-1989). وتبدو مسالة الحفاظ على الديمقراطية وتامين حياتها بدعمها بتصميم وهندسة منظومات امنية شعبية وتقديرات دقيقة لانفاذ العدالة احدى اهم واجبات الجهاز التنفيذي للدولة اذ تعتير بمثابة الضامن الحيوي لصيرورة الديمقراطية كبناء سياسي. فمراحل الانتقال التي تخلف الثورات وتمهد لتحقيق اوضاع ديمقراطية وفي تجربتنا السودانية عادة ما تفتقد للقوة الامنية المساندة لها في ظروف من الجموح السياسي للمؤسسات الحزبية الذي يعقب الثورات او الانتفاضات فتهتم تلك المؤسسات بالمشاركة والتمثيل في السلطة دون ارادات تمكنها من الميل للاستعانة ببيوت الخبرة او المستشارين المستقلين المختصين.
ولكن فان البنيات الانتقالية تحتاج من ضمن ما تحتاجه وبنحو فوري وملازملها لكتلة علمية منظمة تتبع مراكز صناعة القرار وتكون قاعدة لها في البت والصناعة للسياسات. ومن الحلول الواقعية الجذابة، الممكنة، تاسيس مراكز البحوث والتفكير المستقلة التى عليها العمل ليس فقط في رفد الجهاز التنفيذي ومكتب رئيس الوزراء بالوصفات النالجعة الدقيقة ولكن التخطيط لصناعة اقتصاد ومجتمعات المعرفة، واستهداف الهياكل المجتمعية بالتغذية المعرفية والمعلوماتية الحديثة، وتمليك الناس الحقائق والمعلومات النافعة وتعليم الناس المواكبة، واتباع احدث اساليب الاقتصاد، وحثهم على التفكير النقدي لواقعهم بغرض تنمية مجتمعاتهم.
.
وليس من الحصافة بشئ ترك المهمة العسيرة لمراكز البحوث العلمية المستقلة فقط، وانما فتح فرص المشاركة بفعالية لمنظمات المجتمع المدني، والمبادرات الاهلية، والجمعيات الثقافية.
الكتلة الحيوية لاحداث الانتقال في ظروف من التعقيدات السياسية الناتجة من استطالة في حكم لشمولي تمكيني أمنى مستحكم تظل وصفتها وكلمة سرها تكمن في رافعتها العلمية الممثلة في نهوض مجتمع البحث العلمي وبذله الخدمات الوطنية غير المتحيزة سياسيا لحزب او قوة سياسية. لقد افسدنا الفكرة العظيمة ياستخدام لمصطلح الكاءات او التكنوقراط وكان التغيير ياتي بضربة لازب عن طريق توزير الافراد ووضعهم على راس ادارات الدولة دون قواعد علمية متشابكة ومتسلسلة تغذي ادائهم. القيان باقتراف مثل هذا الخطا في انتقال ما بعد ثورة اكتوبر والانتفاضة وثورة ديسمبر يضع هؤلاء الافراد في مصيدة المؤسسات السياسية المتوحشة فتعمل على اقصائهم واستبعادهم بشتى الطرق تمهيدا لزعزعة الامن الانتقالي وتحريض المؤسسة العسكرية بقصد او دونه لقنص الاوضاع واعادة الشمولية من جديد. أكثر من ذلك فان اوضاعنا السودانية ما بعد سلطة الاخوان المسلمين التى امتدت لنحو ثلاثين عاما من حكم تمكيني لا يمكن ان تقبل ذراع عدلي وحيد لتفكيك التمكين، بل بتعدد المسارات والقوى التى تكافحة وتقوم بمهمة التفكيك في اهم حواضنه وهى العقول. ذلك وبدون شك يستدعي استنفار مجتمع الكتلة العلمية وتشكيل مراكز التفكير المختصة المتعددة بالتوازي مع سلطة الجهاز التنفيذي.
المثقف العضوى الراحل عبد الله بولا في كتابه المهم (نسب شجرة الغول ) يعمل على معالجة المشكل بنحو يقود الى فهم ان الغول والذي سكان قد وصفه الاديب الالمعي الراحل الطيب صالح ب (الناس) في تساؤله الشهير : من اين اتى هؤلاء الناس؟. اجاب بولا على التساؤل بان الغول – اى هؤلاء الناس لم يأتوا من السماء، بل من عمق مادة التاريخ، والواقع الاجتماعي الذي صنعناه جميعا بتاجيل مواجهة مشكلاته بواقعية، ومراكمة التأجيل يوما بعد يوم الى ان حاقت بنا الكارثة المطلة بعدة رؤوس الآن.
ان بحث بولا لسيرة نسب الغول يقود وبلا شك الى التعرف الممتازعلى سيرة انتهاكات حقوق المواطنة، والانسان في التاريخ السوداني باثبات انها بنية ثقافية ومادة في العقل قبل كل شي.
اذن فان التفكير يجب ان يذهب مباشرة الى الدولة العميقة بوصفها مشروعا تاريخيا عمل على صناعة الخراب المنهجي ليس فقط بكامل التاريخ الحديث لتجربتنا السياسية ولولكن يسعار وتوحش خاص في مراحل الانتقال بخلخلة محاولات التغيير، واعاقة حركته بشتى السبل والاشكال التى مرة اخرى نشير الى انها لم تهبط من السماء بل صنعتها الوقائع المادية للتاريخ والمجتمعات السودانية وخاصة تلك التي حافظت على درجة من التماهي والتحالف مع مؤسسات التجهيل والتعمية المنظمة بما فيها مؤسساتنا السياسية المعاصرة، الطامعة في الحكم.
الاسلامويون وعندما حكموا هدموا ليحكموا عندما كان يتعذر عليهم ان يحكموا في تطاول بنيان مدني له جذور واشجار باسقة. كان لا بد لهم من هدم معبد المدنية، والاخلاق، والاقتصاد، وتحطيم الطبقة الوسطى على تواضع مشروعها المدني وضعضعتها حتى يتمكنوا بالتعمية والتجهيل وضع عراقيل الاصلاح لمن ياتوا بعدهم.
اقرا وافهم مبادرة السيد رئيس الوزراء من هذا المنطلق. منطلق الحيرة والازمة للعقل القائد الافتراضي حاليا.
فالذين اتوا كانهم لم يأتوا. فقد جاءوا وهم خلو من نظرية الثورة ورؤيا التغيير باستراتيجياتها، وبرامجها، وسياساتها. جاؤوا كباحثين عن ثمن نضالات سياسية تغلي وتمجد من نموذج السجين السجين السياسي السابق في مقاومة الانقاذ (وليس الغول) الذي بذل في مقاومته الآلاف من ابناء السودان البررة عبر السنين وبذلوا الارواح والتضحيات لاجل القضاء عليه.
أن المشاركة في التغيير لا يعني دخول ميدان معركته الشرسة بالاسلحة الخفيفة بل بالاسلحة الثقيلة التى ليست كاسلحة النشطاء الذين جاؤوا لاقتناص غنيمتهم في الامتيازات اسوة باجيال الآباء والامهات ممن سبقوهم على ذات النهج منذ الاستقلال وكانت ظاهرة السودنة كاكبر سوق شهده تاريخنا السياسي المعاصر لبيع الخدمات التنفيذية الوطنية.
لقد أعادوا الخيبة في معركة كانت تستدعى نبلا وتوافقا على عظمة المهام وتعقيدها باتباع معايير االقدرة الحسنة، وتحكيم العدالة فى توزيع المسؤليات. هذا ما ادى الى اغلاق الطريق ونبه الشق العسكري الى خفة الحاضنة باكملها واستهتارها بشعار الثورة في محتواه الاخلاقي فساعد على تنمره على الوثيقة الدستورية وسلطات رئيس الوزراء.
نالك ما يتاتى هنا من ايراد وجه المقارنة بين ما يحدث الآن وظاهرة السودنة فكلا الظاهرتين قد سبقهما استعمار وان اختلف في طبيعته ونسبه.
فقد جاء الفرق او بالاحرى التمايز في ان الاستقلال قد جاء كسولا وخاملا مختلفا عن بقية محتويات الاستقلالات في المنطقة فكان عبارة عن احلال وابدال. وما اضيق الفكرة عن اسماعيل الازهرى الذي تفاخر بانهم استلموا استقلالًا كصحن الصيني لا شق فيه ولا طق. فالاستقلال الذي كصحن الصيني الذي ليس فيه شق ولا طق استقلال عادة ما يصطحب معه ضربا من العنة وتاخذ بطويته سوء الاقدار وسياتي لاحقا بالامراض والنكبات. لكنه- اى الاستقلال - كان يشبه الطبيعة الكسولة الذاتية لشريحة الافندية التي من تجبرها طارت عصافيرنا، ومن عقلها ابتدا حفل الثنائيات الدامي في الحياة السياسية، ومن ثقافتها و مكون تعليمها وتربيتها المحتدمة بالمتناقضات جرى الدمع سائلا بوفرة.
لقد نظرت شريحة الافندية تحت اقدامها فقط، ولم تنظر الى السودان في تنوعه، وامتداداته، ومستقبلاته، فتباروا فوق رؤوسنا باستعراض اغتراب هوياتي لسياسات عاجزة، وحداثة مثقوبة كنا ضيوفا ثقلاء على منتجيها ففشلنا في ابتكاروطن مختلف ومتجاوز.
لقد جاء واستقر كل ذلك من سلطة ثقافة الادب في التطبيق السياسي. والحركة السياسية السودانية في نشاتها انطلقت من عقال الوعى الادبي ومنطوقاته، فمن طبيعة الوعي الادبي بالواقع ان يزيفه، وبالسياسة ان يفسدها.
ان وعينا السياسي تكون عبر جسور ووسائط مشبوهة واهتم بكل شى عدا وضع المعالجات الواقعية باتباع التفكير الواقعي الذي كان عليه وضع التنمية الاقتصادية والتمية الشاملة بتنمية البشر اولا نصب اعينه. فبدلا عن التنمية ورثنا تناميا في اللسانيات والخطب والجعجعة التي بلا طحين رغم التضحيات التي وقعت ودفعت فيها اجيال من السودانيين اثمان باهظة من دم ودموع ونار فكانت الانتهاكات سيرة ومسيرة.
نحن الان في مواجهة هذا الواقع المزرى دون مكياج.
نحن في مواجهة واقع منتهك يحتاج الى اعادة الاعتبار باعادة الكرامة وليس من سبيل سوى التفكير العلمي وبناء مجتمعاته وكتلته القائدة.
ليس من مخرج سوى الانحياز لنتائج العلم وبناء سلطة البحث العلمي.
ليس من حل سوى تربية الذهنية العلمية المتسقة المتناقضة مع الذهنية الاسطورية التي عجزت عن صناعة الوطن الذي نريد.