رسالة مفتوحة الى فضيلة شيخ الأزهر

عبدالله الفكي البشير - 23-07-2020

التاريخ: الثلاثاء 21 يوليو 2020م

فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد محمد أحمد الطيب المحترم
شيخ الأزهر الشريف،
رئيس مجلس حكماء المسلمين،
القاهرة

  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،

الموضـــــــــــــــوع: فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشـريف بتكفير الداعية والمفكر الســـــوداني والإنساني محمود محمد طه في 5 يونيو 1972 ودورها في غرس الفتنة واستمرار تغذية مناخ التطرف والإرهاب وتهديد الأمن والسلام في السودان والعالم

إنني أخاطب فضيلتكم بوصفي باحثاً في شؤون السودان والفكر الإسلامي، خاصة مشروع الفهم الجديد للإسلام للداعية والمفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، وهو عندي بمثابة مشروع بحثي مفتوح ومستمر، نشرت في سبيله العديد من الكتب والأوراق العلمية والمحاضرات والمقالات الصحفية، كما هي مبينة أدناه، ولا أزال أنشر؛ وبحكم أنني درست مواقف الأزهر الشريف من مشروع الفهم الجديد للإسلام وصاحبه، منذ أن طرحه في مساء الجمعة 30 نوفمبر 1951م وحتى يوم الناس هذا؛ وانطلاقاً من واجبي الإنساني والإسلامي والأخلاقي والثقافي، كوني مواطناً كوكبياً معني بحرية الفكر وكرامة الإنسان وخدمة بناء السلام في السودان والعالم، فإنني أدعو فضيلتكم، وأنتم تتبنون خط التجديد للفكر الإسلامي، إلى إعادة النظر في الفتوى التي أصدرتها لجنة الفتوى بالأزهر الشريف في 5 يونيو 1972م (مرفق نسخة، كما سيرد نص الفتوى ضمن هذا الرسالة أدناه) في حق الداعية والمفكر محمود محمد طه، والتي اعتبرت فكره "كفر صراح"، ووسمته بـ "الفكر الملحد".

لقد مر على صدور فتوى الأزهر الشريف ما يقارب نصف القرن من الزمان، ظلت خلاله هذه الفتوى حية وفاعلة تنخر في بناء التعايش والسلام الذي لم يكتمل بعد في السودان، وتمزق في نسيجه الاجتماعي. إن دعوتي لفضيلتكم لإعادة النظر في تلك الفتوى، تعود، فوق الضرر الشخصي والأسري باعتباري، حسب فتوى الأزهر الشريف، من الكافرين المتبعين للفكر الملحد، وبناءً على رأي الفقهاء والوعاظ ورجال الدين الذين ظلوا يستخدمون الفتوى لإرهاب الناس حتى اليوم، كما سيرد التفصيل الموثق، إلى أسباب يمكن إجمالها في المحاور الآتية:

التطور الذي حدث في رأي الأزهر الشريف وموقفه من التكفير مقارنة رأي الأزهر الشريف وموقفه من التكفير ما بين يونيو 1972 ويناير 2020

إن أنصع برهان وأسطع دليل على ضرورة إعادة النظر في تلك الفتوى التي أصدرها الأزهر الشريف في حق الداعية والمفكر السوداني محمود محمد طه، هو ذلك المؤتمر الذي نظمه الأزهر الشريف تحت عنوان: "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي"، في القاهرة خلال الفترة ما بين 27- 28 يناير 2020، بمشاركة 46 دولة من دول العالم الإسلامي، وما خرج به. فقد تلخص البيان الختامي للمؤتمر في (29) نقطة، وقمتم فضيلتكم بتلاوة ذلك البيان الختامي على المؤتمرين، الأمر الذي تناقلته وسائل الإعلام في أنحاء العالم كافة. وفي تقديري أن ما تلاه صاحب الفضيلة الإمام الأكبر، يضع الأزهر الشريف أمام واجبه الإسلامي والأخلاقي والإنساني، بضرورة مراجعة تكفيره للداعية والمفكر محمود محمد طه. فبمقارنة بسيطة لمواقف الأزهر الشريف ما بين عامي 1972 و 2020، نخلص إلى أن الأزهر الشريف، في حاجة إلى ترسيخ القيم الإسلامية السمحاء، لا سيما فضيلة الرجوع إلى الحق. ففي العام 1972 أفتى الأزهر الشريف بأن فكر الداعية والمفكر محمود محمد طه "كفر صراح ولا يصح السكوت عليه"، وخاطب وزارة الشئون الدينية والأوقاف السودانية، قائلاً: "فالرجاء التكرم باتخاذ ما ترونه من مصادرة لهذا الفكر الملحد والعمل على إيقاف هذا النشاط الهدام خاصة في بلدكم الإسلامي العريق"، بينما جاء اليوم ضمن البيان الختامي لـ "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي"، والذي تلاه صاحب الفضيلة الإمام الأكبر، في 28 يناير 2020، قائلاً:

"التكفيرُ فتنةٌ ابتليت بها المجتمعات قديمًا وحديثًا، ولا يقول به إلا متجرئ على شرع الله تعالى أو جاهل بتعاليمه، ولقد بينت نصوص الشرع أن رمي الغير بالكفر قد يرتدُّ على قائله فيبوء بإثمه، والتكفير حكم على الضمائر يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره، فإذا قال الشخصُ عبارةً تحتمل الكفر من تسع وتسعين وجها وتحتمل عدم التكفير من وجه واحد فلا يرمى بالكفر لشبهة الاحتمال؛ اعتدادا بقاعدة (ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين)".

يقيني أن تجديد الفكر الإسلامي الذي دعا له الأزهر الشريف، ونظم له مؤتمراً عالمياً، هو أمر تفرضه حاجة العصر ومتطلبات الإنسان. ويحمد للأزهر الشريف اليوم، في عهد فضيلتكم، وكما ورد في صدر البيان الختامي للمؤتمر أعلاه، قولكم بأن "التجديد لازمٌ من لوازم الشريعة الإسلاميّة، لا ينفكُّ عنها؛ لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس". وفي تقديري أن المواكبة والتجديد، لا تنفصل عن مراجعة المواقف والتاريخ، فالتاريخ ليس هو دراسة للماضي، فحسب؛ وإنما هو أداة للمواكبة ولأحداث التغيير. ولا جدال في أن المواكبة والتجديد من أهم شروط التغيير والحماية من العنف والإرهاب والتطرف، وكلها من أكبر مهددات الأمن والسلام العالميين.

فتوى الأزهر والفتنة وتغذية مناخ التطرف وتهديد السلام والأمن في السودان والعالم

من واقع دراساتي العلمية التي قمت بها، في مشروع الفهم الجديد للإسلام، وقد نشرت بعضها، وبعضها الآخر في طريقه للنشر، وجدت أن فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف بتكفير الداعية والمفكر السوداني محمود محمد طه، كانت من أهم عوامل استخدام العنف باسم الإسلام، ومن أقوى مغذيات مناخ التطرف والإرهاب في السودان، وفي العالم الإسلامي، ومن أكثر الفتاوى توظيفاً من قبل الجماعات الإسلامية في الخصومة، وأشدها أثراً في تمزيق النسيج الاجتماعي في السودان، وأعظم الفتاوي خطراً على الأمن والسلام في السودان والعالم، منذ تاريخ صدورها في 5 يونيو 1972 وحتى يوم الناس هذا. وللتأكيد العلمي على ذهبنا إليه، نورد الأدلة والبراهين الآتية:

أولاً: توظيف هيئة علماء السودان لفتوى الأزهر في منابر المساجد منذ العام 1972

درجت هيئة علماء السودان، إلى توظيف فتوى الأزهر الشريف، منذ تاريخ صدور الفتوى 1972، لتقنع بها غمار الناس. وكانت تخاطبهم في بياناتها، وفي رسائلها الموجهة للأئمة والوعاظ في المساجد، قائلة، على سبيل المثال، لا الحصر، في أحد بياناتها( ): "قد أطلعت لجنة الفتوى بالأزهر على كتاب الرسالة الثانية تأليف محمود محمد طه فحكمت عليه بأنه مرتد وهدام للدين الإسلامي وإن أفكاره هذه تجب مصادرتها لخطورتها على المسلمين وأرسلوا إلى المسؤولين في السودان بذلك"، ثم ذهبت تفصل في التأكيد على الكفر والالحاد، بناءً على فتوى الأزهر الشريف، التي تمثل رأي مشايخه. وفي بيان آخر لهيئة علماء السودان، كان بعنوان: "من علماء السودان إلى جميع إخوانهم أئمة المساجد والوعاظ في أنحاء جمهورية السودان الديمقراطية"، وبعد أن استشهد البيان بفتوى الأزهر، قالت الهيئة: "محمود محمد طه كافر ويعمل على نشر الكفر بين المسلمين"، ثم طالبت الأئمة والوعاظ، قائلة: "لهذا يجب عليكم أيها الإخوان الأئمة والوعاظ أن تقرأوا هذا الكلام على الناس وتبينوا حقيقة هذا الفاجر على المنابر وفي الدروس اليومية مع تكرار قراءة هذا البيان"، ليس هذا فحسب؛ وإنما كانت هيئة علماء السودان تدعو إلى المقاومة وممارسة العنف، وتطالب الأئمة والوعاظ، قائلة: "ان تدعو الناس إلى مقاومته ومقاومة هؤلاء السفهاء من اتباعه بوسائل المقاومة المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وليس منكراً أشد من هذا المنكر الذي يدعو إليه محمود محمد طه واتباعه لهذا فقد وجب عل كل مسلم أن يعمل على تغيير هذا المنكر بكل ما استطاع لا تأخذه في ذلك رأفة ولا لين". وفي هذا دعوة واضحة للعنف وإحداث الفتنة، بالاستقواء والتوظيف لفتوى الأزهر الشريف، الأمر الذي ينسف التعايش ويهدد السلام الداخلي في بلد ليس هناك ما يميزه سوى كِظة التعدد الثقافي.

ثانياً: استدعاء فتوى الأزهر والاستشهاد بها في محاكمة المفكر محمود محمد طه، باعتبارها دليلاً على ردته ومن ثم الحكم عليه بالإعدام وتنفيذه في 18 يناير 1985

في 7 يناير 1985 قُدّم الداعية والمفكر محمود محمد طه وأربعة من تلاميذه للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية رقم (4) بأم درمان، برئاسة القاضي حسن إبراهيم المهلاوي، بتهمة إثارة الكراهية ضد الدولة. فقامت المحكمة في 8 يناير 1985 بإصدار حكمها بالإعدام على محمود محمد طه وتلاميذه الأربعة. ثم قامت محكمة الاستئناف برئاسة القاضي المكاشفى طه الكبّاشى في يوم 15 يناير 1985 بتأييد حكم المحكمة المهلاوي، بعد أن قامت بتحويل الحكم من إثارة الكراهية ضد الدولة، إلى اتهام بالردة، بعد أن استدعت فتوى الأزهر الشريف في يونيو 1972، وفتوى رابطة العالم الإسلامي، إلى جانب حكم سابق أصدرته محكمة الاستئناف الشرعية، وهي محكمة غير مختصة، بالخرطوم في 18 نوفمبر 1968، واستشهدت بهم( ). وبناء عليه تم تنفيذ حكم الإعدام على المفكر محمود محمد طه في الخرطوم، صباح 18 يناير 1985.
ثم جاءت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية، فأعلنت في 18 نوفمبر 1986 بطلان الحُكم الصادر في حق محمود محمد طه. وقالت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في بطلان الحكم أن المحكمة في حكمها في يناير 1985 قد استشهدت بالفتوى التي صدرت عن الأزهر بجمهورية مصر العربية التي وصفت فكر محمود محمد طه بـ "الكفر الصراح" وبـ "الفكر الملحد"، واستشهدت كذلك بفتوى رابطة العالم الإسلامي. ثم خلصت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية فوصفت ذلك الحكم بأنه "تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثاً ومتعارفاً عليه، أو ما حرصت قوانين الإجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليه صراحة"( ). ثم أعلنت بطلان الأحكام الصادر من المحكمة الجنائية (محكمة المهلاوي) ومحكمة الاستئناف (محكمة المكاشفي) في حق محمود محمد طه، واعتبرتها كيداً سياسياً.

ثالثاً: تأثير فتوى الأزهر في الفضاء الأكاديمي في السودان والعالم الإسلامي

وقفت على تأثير فتوى الأزهر الشريف بتكفير الداعية والمفكر محمود محمد طه في الفضاء الأكاديمي السوداني والإسلامي من خلال رصد دقيق وعلمي، سواء من خلال أطروحات الدكتوراه والماجستير، أو من خلال الكتب المنشورة، ويمكن الرجوع إلى ذلك ضمن إصداراتنا المشار إليها ضمن هذه الرسالة، ولكني أورد هنا ثلاثة نماذج، على سبيل المثال، لا الحصر.

النموذج الأول: أطروحة دكتوراه بعنوان: فرقة الجمهوريين بالسودان وموقف الإسلام منها

أعد هذه الأطروحة الطالب (آنذاك) شوقي بشير عبد المجيد (البروفيسور اليوم)، ونال بها درجة الدكتوراه عام 1404هـ (1983 /1984) في العقيدة من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، قسم الدراسات العليا الشرعية، فرع العقيدة، بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، وهو مبتعث من جامعة أم درمان الإسلامية، أم درمان، السودان. لقد تعرضت لهذه الأطروحة بتفصيل في كتابينا، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ ؛ وكتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف. تقع الأطروحة في (1431) صفحة، وقد استندت فيما استندت عليه في التدليل على كفر الداعية المفكر محمود محمد طه على فتوى الأزهر وفتوى رابطة العالم الإسلامي (أعددنا رسالة إلى الرابطة نطالبها بمراجعة الفتوى)، وقد تناول الطالب شوقي موقف المؤسسات الإسلامية من الجمهوريين، ليدعم حكمه الخديج ونتائج دراسة الركيكة التي خرج بها. وقد خلصنا في دراستنا لهذه الأطروحة، بأنها مثلت أبشع النماذج وأنصعها ركاكة وضعفاً وغياباً لأدنى شروط الالتزام بالأسس العلمية والورع الأخلاقي، فاحتوت على أخطاء بشعة في المعلومات والبيانات، دعك من التحليل والنتائج والخلاصات، ويمكن الوقوف على تفاصيل حكمنا هذا، في كتابينا المشار إليهما أعلاه، علماً بأننا بصدد إرسال رسالة إلى جامعة أم القرى، بشأن ذلك.
أسهمت هذه الأطروحة، وهي تستشهد وتستند على فتوى الأزهر الشريف، في تغذية مناخ التطرف وتشيع الجهل في الفضاء السوداني والإسلامي، وقد فصلنا كل ذلك في كتبنا المشار إليهما أعلاه.

النموذج الثاني: كتاب المكاشفي طه الكباشي: الردة ومحاكمة محمود محمد طه في السودان

سبق وأن درسنا هذا الكتاب: الردة ومحاكمة محمود محمد طه في السودان( )، في كتبنا المشار إليها أعلاه. فمؤلف الكتاب هو القاضي المكاشفي طه الكباشي رئيس المحكمة الاستئناف الجنائية، بالعاصمة القومية، وهي المحكمة التي أصدرت قرارها بتأييد حكم إعدام الداعية والمفكر محمود محمد طه وتلاميذه بتاريخ 15 يناير 1985. وعلى الرغم من أن مؤلف الكتاب يحمل درجة الدكتوراه، وهو أستاذ الشريعة الإسلامية المساعد بجامعة الملك سعود بالرياض، فإن الكتاب وهو يتكون من (310) صفحة، كانت (205) صفحة منها، عبارة عن نقل لفصول بأكملها من آخرين، وكان جل هؤلاء الآخرين يستشهدون بفتوى الأزهر، فضلاً عن نقل الدكتور المكاشفي لفتوى الأزهر وفتوى رابطة العالم الإسلامي، وضمنهما كتابه.

النموذج الثالث: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة( )، صدرت عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي

تكونت هذه الموسوعة في طبعتها الرابعة من مجلدين، وتقع في (1224) صفحة. وغني عن القول بأنها من أهم المراجع في المعاهد القرآنية والجامعية الإسلامية وغيرها من الجامعات. اعتمدت هذه الموسوعة فيما يتعلق بالداعية والمفكر محمود محمد طه ومشروعه الفكري وحزبه السياسي، على مصادر ومراجع كانت تستند على فتوى الأزهر، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، اعتمدت الموسوعة على أطروحة الدكتوراه لشوقي عبد المجيد، آنفة الذكر. ولهذا فقد اشتملت الموسوعة فيما أوردته عن الداعية والمفكر محمود محمد طه، على معلومات غير صحيحة البتة، وعلى نصوص مبتورة.

رابعاً: استخدام فتوى الأزهر من قبل الأئمة والوعاظ ورجال الدين في إرهاب الناس

ظل الخصوم والأئمة والوعاظ والفقهاء في السودان يستخدمون فتوى الأزهر الشريف على منابر المساجد وفي وسائل الإعلام، منذ عام 1972 وحتى يوم الناس هذا، ويستندون عليها في تكفير الداعية والمفكر محمود محمد طه، وتلاميذه، الإخوان الجمهوريين، وتلميذاته، الأخوات الجمهوريات. لم يكن لدى خصوم الفكر الجمهوري والوعاظ والفقهاء غير فتوى الأزهر، بعد أن أعلنت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في 18 نوفمبر 1986 بطلان الحُكم الصادر في حق الداعية والمفكر محمود محمد طه، واعتبرته كيداً سياسياً، كما ورد آنفاً. ومن أجل التأكيد على ذلك، نورد أدناه نماذج من محاضرات وأحاديث الأئمة والوعاظ والفقهاء ورجال الدين الذين ظلوا يستخدمون فتوى الأزهر الشريف للتكفير والإرهاب، من على منابر المساجد، وفي القنوات التلفزيونية الفضائية السودانية وغير السودانية، وأخطر من كل ذلك أنها محاضرات وخطب تكفيرية، استناداً على فتوى الأزهر، متاحة ومتوفرة على اليوتيوب على شبكة الإنترنت، وكذلك الكتابات، ليشهدها ويستمع إليها من يشاء من أهل الأرض جميعاً، والشواهد على ذلك كثيرة جداً، ولكني أقدم على سبيل المثال، لا الحصر، ستة نماذج:

  1. الأستاذ الدكتور عارف الركابي، يستشهد بفتوى الأزهر، في ثلاث محاضرات كانت في يونيو 2020، على بيان ردة والحاد محمود محمد طه وفكر الجمهوريين. قائلاً: إن ما جاء به محمود محمد طه أنكره الجميع، لأنه يقوم على هدم الإسلام، على هدم القرآن على هدم التشريع، على إنهاء الأركان الإسلام الخمسة، الشهادتين والصيام، والصلاة، والزكاة والحج… ثم استشهد الدكتور الركابي بفتوى الأزهر الشريف، قائلاً: صدرت فتاوى، فتوى من الأزهر في مصر، … جاء في خطاب الأزهر، من مجمع البحوث الإسلامية، وهذا في عام 1972، الخامس من يونيو( ):
    الأزهر، مجمع البحوث الإسلامية، مكتب الأمين العام
    السيد الأستاذ وكيل وزارة الشئون الدينية والأوقاف بالسودان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. فقد وقع تحت يدي لجنة الفتوى بالأزهر الشريف كتاب الرسالة الثانية من الإسلام تأليف محمود محمد طه طبع في أم درمان الطبعة الرابعة عام 1971م ص. ب 1151. وقد تضمن هذا الكتاب أن الرسول بعث برسالتين فرعية ورسالة أصلية. وقد بلغ الرسالة الفرعية. وأما الأصلية فيبلغها رسول يأتي بعد. لأنها لا تتفق والزمن الذي فيه الرسول وبما أن هذا كفر صراح ولا يصح السكوت عليه. فالرجاء التكرم باتخاذ ما ترونه من مصادرة لهذا الفكر الملحد والعمل على إيقاف هذا النشاط الهدام خاصة في بلدكم الإسلامي العريق. وفقكم الله وسدد خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. دكتور محمد عبدالرحمن بيصار، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية".

  2. الدكتور إسماعيل صديق عثمان، أستاذ جامعي، يستشهد بفتوى الأزهر التي تكفر الداعية والمفكر محمود محمد طه، وذلك بتاريخ 19 أبريل 2020 من على منبر قناة الجزيرة الفضائية، مؤكداً على فكره وعدم قبول فكره بدليل "أن الأزهر الشريف، مجمع البحوث الإسلامية أفتى بردة هذا الرجل وكفره"( ).

  3. الدكتور الباقر عمر السيد، أستاذ بجامعة بحري، السودان، يستشهد بفتوى الأزهر الشريف في أقواله وكتابته، وقد أوضح في لقاء تلفزيوني بأن الفتوى التي صدرت في حق محمود محمد طه قد منعت نشر كتبه( )، في إشارة لما ورد في فتوى الأزهر، "فالرجاء التكرم باتخاذ ما ترونه من مصادرة لهذا الفكر الملحد والعمل على إيقاف هذا النشاط الهدام خاصة في بلدكم الإسلامي العريق".

  4. الشيخ محمد مصطفى عبد القادر، يستشهد بفتوى الأزهر، 10 ديسمبر 2019، قائلاً: "كل علماء العالم كفر محمود محمد طه، الأزهر الشريف، كل علماء الأزهر الشريف كفروه، وهذه هي فتواهم، ثم تلا نص فتوى الأزهر الشريف كاملاً( ). وأضاف الشيخ محمد مصطفى عبد القادر، قائلاً: "… كافر كل العلماء قالوا كافر، كلهم في العالم، وفي الأزهر…".

  5. الدكتور مهران ماهر، يستشهد على كفر الداعية والمفكر محمود محمد طه، بفتوى الأزهر، 18 أكتوبر 2019م، قائلاً: "صدرت الفتوى من الأزهر الشريف بتاريخ 5/6/1972م بكفر الرجل، جاء في نصها، …" ثم تلا الدكتور مهران ماهر نص فتوى الأزهر كاملاً( ).

  6. الدكتور عبد الحي يوسف، يستشهد بفتوى الأزهر في إجابته على سؤال طرح عليه يقول السؤال: هل يعتبر الجمهوريون (جماعة محمود محمد طه) من الفرق المارقة؟ وهل يجوز الأكل معهم أو الزواج منهم؟ أجاب الدكتور عبدالحي يوسف، قائلاً: "إن الفكر الجمهوري الذي كان داعيته والمنظِّر له الهالك المذموم (محمود محمد طه) قد حوى جملة من المصائب والطامات التي تجعل الحكم عليه بيِّناً واضحاً، … وقد أفتت هيئات شرعية ومجامع فقهية ومحاكم إسلامية معتبرة بردة الرجل وفساد فكره، وأن هذا الحكم ينسحب على كل من يؤمن بأفكاره تلك ويتابعه في هرطقته وزندقته، فصدرت… فتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بتاريخ 5/6/1972م بأن كلام محمود كفر صراح لا يصح السكوت عليه"( ).

خامساً: استخدام فتوى الأزهر وتوظيفها في تمزيق النسيج الاجتماعي

أسمح لي فضيلتكم أن أضع أمام ناظريكم طرفاً من أثر فتوى الأزهر الشريف ودورها في تمزيق النسيج الاجتماعي في السودان. وهنا أود التأكيد على أن حديثي يأتي عن مسؤولية أخلاقية وعلم ومعرفة عبر رصد دقيق ومستمر، بأن فتوى الأزهر الشريف في حق الداعية والمفكر السوداني محمود محمد طه، أصبحت اليوم المغذي الأساس لمناخ الإرهاب والتطرف، والعامل الرئيس في تمزيق النسيج الاجتماعي في السودان. فلقد نتج عن الاستخدام المستمر لفتوى الأزهر الشريف من قبل الفقهاء والوعاظ والأئمة والخصوم، وبصورة تكاد تكون يومية، على منابر مساجد السودان، وفي الإعلام، ومراكز الدعوة، وحلقات الدروس، وعبر أدوات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك واليوتيوب، وغيرهما)، أذى جسيم ومتجدد ومتوسع ومستمر لقطاع كبير من الشعب السوداني. فأتباع الداعية والمفكر محمود محمد طه، الإخوان الجمهوريين والأخوات الجمهوريات، حسب فتوى الأزهر الشريف، كفار ومتبعين لفكر ملحد، وكذلك عند مرددي الفتوى وموظفيها من رجال الدين والفقهاء والأئمة. وهنا أرجو أن تتصور معي فضيلتكم، كم أسرة جمهورية ظل يلاحقها الأذى من فتوى الأزهر الشريف منذ عام 1972 وحتى اليوم؟ وكم طفل وطفلة من أبناء الجمهوريين سمع الوسم لأسرته بالكفر والالحاد في المدرسة والشارع والمسجد؟ وكم طالبة وطالب جامعي من أبناء الجمهوريين لاحقهم الوسم بالكفر والإلحاد في الجامعات والشارع بسبب فتوى الأزهر الشريف؟ وكم زيجة نُسفت بسبب فتوى الأزهر الشريف؟ وكم من مشروع زواج، طرفه شباب نضر، نُسف بسبب فتوى الأزهر الشريف؟ وكم من روابط رحمية، وعلاقات عمل، وصداقات تصدعت بسبب فتوى الأزهر؟ وفي واقع الأمر ما أوردناه من صور، هو قليل من كثير من الأذى الذي يعيشه قطاع كبير من المجتمع السوداني وبشكل يومي بسبب فتوى الأزهر الشريف.

فتوى الأزهر الشريف تشعل الفتنة وتشغل المحاكم السودانية

إن أذى فتوى الأزهر الشريف وضررها في حق الداعية المفكر محمود محمد طه والجمهوريين، ظل عابراً للزمان ولجغرافيا أقاليم السودان، بل غدى الضرر يلاحق الذين يخدمون الشعب والوطن من طاقم الحكم من الوزراء في السودان. فلقد تم الاستشهاد بفتوى الأزهر الشريف في الكثير من قاعات المحاكم في السودان، كما وردت الإشارة لطرف من ذلك، وكان انعقاد المحاكم بسبب اشعال الفتنة من قبل الأئمة والوعاظ ورجال الدين من خلال توظيفهم لفتوى الأزهر الشريف. ونقدم هنا نموذجاً واحداً، على سبيل المثال، لا الحصر، كدليل على ما ذهبنا إليه. فلقد رمي الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف، وهو داعية إسلامي وأستاذ جامعي، من على منبر المسجد، سعادة الأستاذة ولاء عصام عبدالرحمن البوشي، وزيرة الشباب والرياضة، بالكفر، بسبب أنها تنتمي إلى أسرة جمهورية. ولا تزال القضية في ردهات المحاكم. يقول الدكتور عبد الحي: "ولست معني ببيانها لتلك التي اختاروها وزيرة للشباب والرياضة، فهذه لا تؤمن بالذي نؤمن به، وإنما هي تابعه لرجل مقبور مرتد مغرور"، وقد حكم علماء الإسلام في الداخل والخارج بأن هذا الرجل زنديق مرتد، وقد أعدم جزاء ردته. وأضاف الدكتور عبدالحي يوسف، قائلاً: "هذه المرأة التي تتولى وزارة الشباب والرياضة، امرأة جمهورية، تتبع ذلك المرتد المقبور"( ).

دور الأزهر الشريف في تجفيف منابع التطرف والإرهاب

لا جدال في أن الأزهر الشريف مؤسسة عريقة، ولها أثر فعال في الفضاء الإسلامي العالمي، ومنوط بها دور عظيم في بناء السلام العالمي، خاصة في عصرنا هذا، وهو عصر الجماهير بلا منازع. ففي يقيني، أن سلاح الجماهير وهو الثورات الشعبية، هو سلاح فعال وهو في توسع وتعمق مستمر. فالثورات التي تعيشها المنطقة اليوم، لا سيما ثورة ديسمبر المجيدة (ديسمبر 2018- أبريل 2019) التي اندلعت في السودان، فهي لا تنشد التغيير السياسي، فحسب، وإنما التغيير الشامل والجذري، بما في ذلك التغيير في المؤسسات الدينية، والتجديد في الفكر الإسلامي. ويحمد لفضيلتكم، أنكم بتبنيكم لخط التجديد في الفكر الإسلامي، وضعتم الأزهر الشريف في مسار جديد. إن هذا المسار، إذا ما اكتملت شروطه، يمكن أن يحقق المواكبة لتطورات العصر ومتطلبات الإنسان وتوق الجماهير للتغيير. وفي تقديري لا تكتمل هذه الشروط، إلا بالتجسيد العملي لمخرجات مؤتمر الأزهر الشريف الأخير. فلقد اعتبر الأزهر الشريف في مؤتمر الأخير أن "التكفير فتنة"، وبينتم فضيلتكم في تلاوتكم للبيان الختامي للمؤتمر، بأن التكفير "لا يقول به إلا متجرئ على شرع الله تعالى أو جاهل بتعاليمه"، وأضفتم فضيلتكم بأن "التكفير حكم على الضمائر يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره". وفي تقديري أن هذا القول، وكذلك المخرجات الأخرى لمؤتمر الأزهر الأخير، ستجفف منابع التطرف والإرهاب إذا ما وجدت طريقها للتجسيد والتطبيق العملي.
ولعل أولى الامتحانات لمخرجات مؤتمر الأزهر الشريف الأخير، هو طلبنا من فضيلتكم، وهو طلب يأتي في مناخ ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ويصب في الوفاء لشهدائها، بإعادة النظر في فتوى الأزهر الشريف التي صدرت عام 1972 في حق الداعية والمفكر السوداني محمود محمد طه، وذلك بناء على رأي الأزهر الشريف اليوم، وفي ضوء مخرجات مؤتمره الأخير.
قبل الختام يقيني بإن إعادة فضيلتكم للنظر في فتوى الأزهر الشريف في حق الداعية والمفكر السوداني محمود محمد طه وتلاميذه الإخوان الجمهوريين والأخوات الجمهوريات، وإعلان الأزهر الشريف التخلي والتراجع عنها، فإننا في الفضاء الإسلامي سنكون قد دخلنا، ومعنا الإنسانية جمعاء، عهداً جديداً. ولا ريب عندي أن هذا العهد الجديد سيكون عهد خير وبر وبركة، كون الأزهر الشريف جعل قوام العهد الجديد تجسيد الأخلاق وحرية الفكر والقيم الإنسانية، والدعوة للعمل من أجل بناء السلام في النفوس وعلى الأرض.
وفي الختام أود أن ألفت انتباهكم إلى أنني أشركت في هذه الرسالة قائمة طويلة من الشركاء المحليين (من السودان) والشركاء الإقليمين والعالمين، من الوزرات، والمنظمات، والمؤسسات، والجامعات، ومراكز حقوق الإنسان، ومراكز البحوث والدراسات، والاتحادات والنقابات، والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام، بإرسال نسخه لكل منهم. وجميع هؤلاء الشركاء معنيون بتنمية الوعي وخدمة التنوير، وحرية الفكر وحقوق الإنسان وكرامته وبناء السلام العالمي. وجميعهم وبناء على مواثيقهم وغايات نشاطهم، يتضررون من خطاب التفكير والتطرف والإرهاب، ومن انهيار السلام المحلي أو الإقليمي أو العالمي. وفي تقديري لم يعد الرمي بالكفر، واحتقار الفكر، والتعالي العنصري والثقافي، وهي من صميم قضايا الحرية وحقوق الإنسان وكرامته، وبناء السلام، لم تعد شأناً محلياً أو إقليميا، وإنما أصبحت شأناً كوكبياً، تخرج الثورات من أجله في كل شوارع المدن الكبرى في العالم. فلقد تأكدت وحدة المصير المشترك للإنسانية، وأصبحت الجماهير ليست حاضرة في المشهد السياسي والفكري، فحسب، وإنما فاعلة فيه، بل قادره على تغيير ملامحه عبر سلاح الثورات الشعبية. ولعل كل ذلك يتصل بدعوة فضيلتكم إلى تجديد الفكر الإسلامي باعتباره "لازمٌ من لوازم الشريعة الإسلاميّة، لا ينفكُّ عنها؛ لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس".
ولهذا فإننا ننتظر من الأزهر الشريف، أن يضع نفسه في مصاف جديد، يخدم من خلاله شعوب الإسلام والإنسانية جمعاء، ويقدم هوية جديدة للمؤسسة الإسلامية، أهم ملامحها التجديد وتعزيز الحرية وحقوق الإنسان وكرامته، والشراكة مع شعوب الأرض في بناء السلام العالمي. ومن أجل التأكيد على صدقية هذا المسار الجديد، فإننا نطالب الأزهر الشريف بالاعتذار عن الفتوى التي أطلقها يوم 5 يونيو 1972م في حق الداعية والمفكر السوداني محمود محمد طه، والإعلان عن التخلي عنها. وبهذا يكون الأزهر الشريف قد خدم السلام والتعايش بتجريده للأئمة والفقهاء ورجال الدين من سلاح التكفير، وأدوات إرهاب الناس. وفي هذا دعوة جديدة من الأزهر الشريف إلى الأئمة والفقهاء والوعاظ ورجال الدين إلى إعمال الفكر وشحذ العقول، وضرورة العمل عبر التدبر والتفكر والبحث والتمحيص والتنقيب الفكري، بدلاً من إطلاق الأحكام، الموروثة والجاهزة، بالكفر والإلحاد.

وتفضلوا فضيلتكم بقبول فائق التقدير وكثير الاحترام،،،

عبدالله الفكي البشير
باحث وكاتب سوداني
دكتوراه فلسفة التاريخ، جامعة الخرطوم، السودان
مدينة كالجاري، ألبرتا، كندا
30 Citadel Crest Link NW,
Calgary, AB, T3G 4W4,
Canada
بريد إليكتروني: abdallaelbashir@gmail.com